لقد استلهمت من شدة تعلقي ورغبتي في القراءة، وحمل النفس على ما تكره قاعدة ثقافية، تقول: اقرأ ما تحب، حتى تحب ما تقرأ! ومفادها أن تبدأ بقراءة ما تحب من المواضيع لتستعين بذلك على صعوبة التعود على القراءة، فإذا تمكنت منك عادة القراءة، وصارت عادة مألوفة لا تستطيع التوقف عنها، بل تشعر بالرغبة والميل الشديدين إلى أن تحبس نفسك مع الكتاب من دون أن تشعر بأي ملل أو ضيق، فإذا شعرت أن اهتمامك بما تقرأ تحول إلى رغبة تتحرك وتنمو بداخلك، فإنك بذلك قد أحرزت نصرًا، أو شيئًا قريبًا من النصر على صعوبة اكتسابك عادة القراءة، والحرص عليها.
هذه واحدة من العادات التي اكتسبتها من تعلقي بالقراءة، وساهمت بشكل واضح في تعزيز صلتي بالكتاب، وولعي بالقراءة والمطالعة، أما الثانية، فهي تتعلق بالكُتَّاب الذين نقرأ لهم، والذين قد تتعارض أفكارهم وقناعاتهم، فنحتار في أمرهم، ولا نجد تفسيرًا لهذا التعارض، وأنه ربما السبب وراء ذلك هو تغير قناعاتهم، وأننا لم نقرأ عن تحولاتهم الفكرية، وقناعتهم الفلسفية، فنقرأ لهم رأيًا قبل تحولهم عن هذا المبدأ أو ذاك، ولهذا تقول القاعدة الثقافية الجديدة: اقرأ عن الكاتب قبل أن تقرأ له حتى تواكب، وتصاحب تحولاته الفكرية، وما يطرأ عليها من تغير، فتظن أنه كاتب ليس له موقف ثابت، ولا مبدأ راسخ، وحتى لا تسيئ إليه، وهذا حدث لي شخصيًا، فقد أسست علاقتي بالأستاذ المفكر خالد محمد خالد من خلال كتاباته عن رجال حول الرسول (صلى الله عليه وسلم) والذي صدر في خمسة أجزاء، ثم جمعت هذه الأجزاء في مجلد واحد يضم ستين شخصية، فاحتل في نفسي وفِي قلبي محل الصدارة بين الكُتاب الإسلاميين، وحدث أني قرأت لكاتب يتهم الأستاذ خالد محمد خالد بأنه عدو للإسلام، فهالني ما قرأت، وأحسست بالصدمة تزلزل كياني، فكيف يتحول كاتب قد نال عن جدارة، وعن استحقاق هذه المنزلة التي نالها الأستاذ خالد محمد خالد بكتاباته عن رجالات الإسلام العظام، ثم يتحول هذا الكاتب بين ليلة وضحاها من ناصر للإسلام، منافحًا عنه إلى عدو للإسلام، وأصابتني الحيرة، وتوقفت عن قراءة كتب الأستاذ خالد محمد خالد حتى أتبين من أمره، وأعرف وجه الحق في مواقفه، هل هو كاتب إسلامي عن جدارة أم هو كما وصفه الكاتب الذي اتهمه بأنه عدوٌ للإسلام، محارب له؟! وهذا لن يتأتى إلا من خلال البحث عن كتب كتبت عن الأستاذ خالد وعن تحولاته الفكرية التي جعلت هذا الكاتب يصنفه ضمن قائمة الأعداء، ولن أُسلِمَ عقلي إلى غيري يتلاعب به، ويفرض الوصاية عليه، وشعرت أن هذا المسلك الذي سلكته هو إشارة إلى مستوى من النضج العقلي قد بلغته، ولقد أسعدني ذلك، وطمأنني على سلامة تفكيري.
إذًا، فمهم جدًا أن تقرأ عن الكاتب قبل أن تقرأ له حتى تدخل عالمه الفكري أو الثقافي، وأن نكون على بيِّنة من أمرنا حتى لا نواجه بمثل هذا الموقف الملتبس، وينتج عنه هذه الحيرة التي واجهتها.
قلنا عند حديثنا عن القاعدة الثقافية الأولى وهي: أن نقرأ ما نحب حتى نحب ما نقرأ، أن هذه إذًا استوت على سوقها، وبدأت ثمارها وقطوفها دانية، فاعلم أنك ساعتها تستطيع أن تقرأ ما تشاء، وأن تحب ما تقرأ، بعد أن قرأت ما تحب، وأن عقلك قد بلغ مرحلة من النضج تجعلك قادرًا على هضم أي موضوع من دون أن تواجه أية صعوبة، وهنا تكون قد نجحت وبتفوق في تَوْطين عادة القراءة في نفسك وعقلك ليس فقط لما تحب من كتب ومواضيع، بل وحتى لا أقول ما تكره، بل ما تجد صعوبة في قراءته، وعندها تشعر بأن أبواب المعرفة ونوافذها قد فُتِحَت لك ودون عناء، وأن رياح المعرفة وإن كانت شديدة إلا أنها لن تقلعك من جذورك، لأن شجرة المعرفة أصولها راسخة، يقول تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلًا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25)) سورة إبراهيم.
واختيار هذا المثل من النبات يشير إلى دوام المعرفة، واستمرارها، كما يشير أيضًا إلى نمو المعرفة وبركتها عندما تكون الغاية هي مرضاة الله تعالى، وهذا خير مثالٍ
كما يشير المثل، ويؤكد تفرد المعجزة التي أنزلها الله تعالى على خاتم أنبيائه محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو كتاب فصلت آياته من لدن عليم حكيم، وأن الكتاب مهما تعددت، وتطورت وسائل الاتصال والتواصل بين الناس سيظل هو الأساس لتحصيل المعارف الإنسانية، يقول تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (4)) سورة العلق.
هذه الآيات الجليلات دشنت لعصر هو أعظم العصور التي جعلها الله تعالى منبعًا للحضارات، والنبوغ العلمي الذي لن يقف عند حد، وكون القرآن العظيم جمع بين المعجزة الدالة على صدق الرسول (صلى الله عليه وسلم) في بلاغه عن الله تعالى والتشريع، وأن الله تعالى قد حفظ القرآن، وبحفظه للقرآن حفظ الشريعة، كما حفظ الله تعالى أيضًا اللغة العربية، فجعلها وعاء وسقاء - كما أشرت إلى ذلك في مقالة نشرت لي في صفحة «قضايا وآراء»، ومعنى أن اللغة صارت وعاءً وسقاء، فهي وعاء تحوي القرآن نصًا، وهي سقاء يستقي بها المسلمون الشرائع، والأحكام، والأخلاق.
إذًا، فالعمل بهاتين القاعدتين الثقافيتين، والحرص عليهما، والترويج لهما بين القراء، سوف يعين الشباب، ويساعدهم على أن يألفوا صحبة الكتاب، وأن يكون في هذ الصحبة متعة لا تعادلها متعة، وكما قال العلماء عن الاهتمام بالقراءة، والصبر عليها، قالوا: «نحن في متعة لو علمها الأباطرة لقاتلونا عليها!».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك