في بعض الأحيان أستغرب من كل تلك الأوراق الصفراء التي أجدها في صندوق جدي، وأسأل نفسي: كيف جمعها؟ وكيف كتبها بخط يده؟ ولماذا تركها هكذا في هذا الصندوق الحديدي؟
وعلى الرغم من ذلك أجد نفسي بين الفينة والأخرى أعود إلى ذلكم الصندوق، أعبث فيه، وأستمتع بقراءة خواطر وأفكار وحكايات جدي، وأشعر وكأني جالس بين يديه ويقول لي حكاياته الجميلة.
وإليكم اليوم هذه الحكاية،،
يقول جدي في أوراقه الصفراء:
كان لأحد الأشخاص خروف وأراد أن يبيعه، وعندما أخذه إلى السوق رآه أربعة لصوص، واتفقوا على أن يسرقوا الخروف بطريقة ذكية، فتقاسموا الجلوس على جانب الطريق المؤدية إلى السوق التي سيمر منها صاحب الخروف، حيث جلس الأول في بداية الطريق، وجلس الثاني في ربع الطريق الأول، وجلس الثالث قريبًا من منتصف الطريق وجلس الرابع قبل نهاية الطريق، أي قبيل السوق بقليل.
وعندما مر صاحب الخروف من جانب اللص الأول ألقى عليه السلام فرد اللص عليه السلام وبادره بالسؤال: لماذا تربط هذا الكلب وتقوده خلفك؟
فالتفت صاحب الخروف إلى اللص وقال له: هذا ليس كلبًا إنه خروف، وأنا ذاهب به إلى السوق لأبيعه.
ثم تركه وانصرف، وبعد مسافة التقى باللص الثاني فرد عليه السلام وإذا باللص يسأله: يا هذا، لماذا تربط هذا الكلب وتقوده خلفك؟
فالتفت صاحب الخروف إلى الخروف ونظر إلى اللص وقال له: هذا ليس كلبًا، هذا خروف وأنا ذاهب به إلى السوق لأبيعه.
ثم تركه وانصرف، ولكن الشك قد بدأ يتسرب إلى قلب الرجل، فأخذ يتحسس الخروف ليتأكد هل هو كلب فعلاً كما قال له اللصان أم هو خروف كما يعتقد هو؟ ولكنه شعر أنه خروف. وبعد مسافة التقى اللص الثالث فرد عليه السلام وإذا باللص يسأله نفس السؤال السابق: لماذا تربط هذا الكلب وتقوده خلفك؟
فاندهش صاحب الخروف وزادت حيرته، ونظر إلى اللص ثم انصرف ولم يجبه عن سؤاله، ولكن بدأت فكرة أن يكون هذا الحيوان الذي يجره كلبًا تطغى على فكرة أن يكون خروفًا، بل وتمسح فكرة أن يكون خروفًا تمامًا. وبعد مسافة التقى اللص الرابع فرد عليه السلام وباشره اللص قائلاً: لماذا تربط هذا الكلب وتقوده خلفك؟
في هذه اللحظة تأكد صاحب الخروف أنه يقود كلبًا فعلاً وليس خروفًا، فليس من المعقول أن يكون كل هؤلاء الأشخاص كاذبين، فالتفت إلى اللص وقال له: لقد كنت في عجلة من أمري فاعتقدت أن هذا الكلب خروف فربطته لأذهب به إلى السوق لأبيعه، ولم يتبين لي أنه كلب إلا الآن.
ثم فك وثاق الخروف، وأطلق سراحه، وعاد إلى بيته باحثًا عن خروفه، وقام اللصوص وأخذوا الخروف وانصرفوا وهم يتهامسون في سرور وغبطة.
انتهت القصة عند هذا الحد، والغريب أن جدي لم يعلق كعادته على القصة، إلا أنه أنهى القصة بقهقهة، وختم القصة.
ولكن اليوم تصدق الحكاية،، إذ نرى أنه هكذا يصنع الرأي العام في حكومة الاحتلال ودول الغرب، فالرأي العام يزرع في عقلية الإنسان عندما توضع بذرة – قد تكون نبتة طفيلية غير مرغوب في وجودها – ثم تسقى بيد آثمة بين فترة وأخرى، وبكل هدوء وصبر حتى تبدأ البذرة بالنمو من غير أن يشعر بها أحد، ومع توالي الأيام تكبر البذرة لتصبح بادرة، عندئذ تخرق الأرض وتمد سيقانها إلى الشمس، لتصبح تلك الفكرة النكرة حقيقة حتى وإن لم يشأ صاحب الأرض نمو هذه الشجرة، وهكذا يريد الاحتلال ودول الغرب أن تُسرب فكرة أن حكومة الاحتلال هي الدولة الأخلاقية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأنها تحافظ على كل القيم والأخلاق، وأن ما عداها هم مجموعة من الهمج عديمو الأخلاق والشرف الذين لا يستحقون الحياة.
دولة الاحتلال ودول الغرب من خلال إعلامها العفن والمتعفن تحاول أن توهمنا أن الخروف كلب، وأن الكلب أقوى من الأسد، فهم يحاولون أن يزرعوا في عقولنا وعقول أجيالنا القادمة أنها دول عظمى وجيوشها لا تقهر، وأنهم يحاربون للمحافظة على الديمقراطية والحريات والبناء الحضاري الذي ما قام ولن يستمر إلا باستمرار وجود دولة الاحتلال في هذا الجزء من الأرض، يحاولون أن يزرعوا في عقول أجيالنا أن المقاومة فئة إرهابية تحاول طمس الطهارة والنزاهة، إنها في الحقيقة حيوان لا يستحق البيع والتعامل معه.
وتشير التحليلات التي راجعناها في وسائل الإعلام المختلفة إلى أن جيش الاحتلال يقوم بالتلاعب بالملفات الصوتية والمرئية ويعيد بثها مرة أخرى بهدف التضليل الإعلامي، وعندما ينكشف خداعها، تتصرف وكأن الأمر لا يعنيها، فعمليات قتل الأطفال والنساء وكبار السن على يد جيش الاحتلال يمر في الإعلام الغربي وكأنه حدث عادي، بل على العكس فكل هؤلاء بالنسبة إليهم يعتبرون جزءا من جماعة إرهابية تريد أن تغتال الحرية والديمقراطية والحياة والجمال والتحضر والحضارة، لذلك فإن قتلهم أفضل للبشرية.
عندما يخرج المتحدث باسم جيش الاحتلال وتسمعه يتحدث، فإنك تُذهل بكم الأكاذيب التي يتلفظ بها، حتى أنه يبين أن الحرب التي يقومون بها هي حرب لإنقاذ البشرية من الظلام الدامس الذي من الممكن أن يحيط بالكرة الأرضية إن انتصرت المقاومة، فالاحتلال يضحي، نعم هكذا (يضحي) بكل قدراته من أجل إنقاذ البشرية.
لقد حاول إعلام الاحتلال وبشكل يصل إلى حد الاستخفاف بعقول الناس، بإخفاء كل ما يحدث في الجانب الغزّي من مجازر وتدمير بيوت وأحياء كاملة وقتل آلاف الأطفال والنساء وتشريد أكثر من مليون مواطن غزّي، كما اهتم الإعلام بمنع نشر صور وأشرطة مسجلة يظهر فيها الرهائن المحتجزون في غزة، وهم يناشدون الحكومة الإسرائيلية ورئيسها بتحريرهم وإعادتهم إلى عائلاتهم، كذلك حرص الإعلام الإسرائيلي على إسدال نوع من الضبابية على كل ما يحدث في الجبهة الشمالية سواء من حيث الإصابات في صفوف الجنود، أو حجم الأضرار التي لحقت بالمستوطنات الشمالية، بحيث إن هناك تقارير تتحدث عن تضرر أكثر من 50% من المنازل والمباني في بعض المستوطنات.
إلا أنه لم يكن الهدف هنا، كما هو الحال دائمًا، تقديم الأدلة، بل الفوز في المعركة الدعائية الإعلامية من خلال التوجيه المضلل، وزرع بذور الشك التي يمكن للسياسيين ووسائل الإعلام الغربية استغلالها بعد ذلك للتعتيم على هذه القضية أمام جماهيرهم.
وبالعودة والبحث في ملف إنشاء الإعلام الصهيوني ندرك تمامًا ما يمكن تسميته (متلازمة الإعلام الصهيوني والرواية المضللة) منذ فترة مبكرة، ويمكن مشاهدة وقراءة كل ذلك من خلال صحيفة هآرتس عام 1919، وصحيفة يديعوت أحرونوت عام 1939، وصحيفة معاريف عام 1948، أما تلفزيون دولة الاحتلال عام 1968م فقد كان أول برنامج يبثه هو استعراض للجيش الاسرائيلي الذي ارتكب وما زال يرتكب أبشع صور القتل والتدمير. فمثلاً يتشكل مجلس إدارة القناة الأولى من حوالي 30 عضوًا يتم تعيينهم من قبل الكنيست بشكل يمثل جميع المكونات الحزبية المتطرفة، وهذه النماذج الإعلامية يعكس تاريخ تأسيسها وطبيعة إدارتها.
وخلال الاعتداءات الصهيونية المستمرة على مدن فلسطين المحتلة جميعها بما فيها القدس ونابلس والخليل وغيرها في حرب الإبادة، نلحظ الكثير من الأكاذيب والخداع سواء في سرد المعلومات أو استخدام المصطلحات بشكل مزيف، ضمن محاولة التشويش على الإعلام المتزن الحر ومحاربته، وبالتزامن مع هذه السياسة يجري إغلاق المؤسسات الإعلامية العاملة في فلسطين المحتلة التي تنشط في رصد الجرائم الإسرائيلية. وكذلك ما يجري اليوم في حرب طوفان الأقصى من اغتيال الكوادر الإعلامية، حيث بلغ عدد الشهداء من الصحفيين 34 صحفيًا، إضافة إلى قصف حوالي 50 مركزًا إعلاميًا، ومن جهة أخرى ينشط الإعلام الصهيوني في تصوير الاحتلال على أنه ضحية الحرب.
ومثال على ما يحدث فإنه عندما يتحدث مندوب دولة الاحتلال في الأمم المتحدة فإنه يحاول تقليص الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والذي تعود جذوره إلى عقود طويلة من الاستعمار والقتل والتهجير على أنه حرب على غزة فقط، ليس ذلك فحسب وإنما تحديدًا ضد حماس وحدها، معتبرًا أن له الحق، وكل الحق، في الدفاع عن نفسه ضد الإرهاب والظلامية، بينما لا يحق للشعب الفلسطيني الدفاع عن نفسه وتحرير أرضه ومقاومة الاحتلال، بالاستناد إلى الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة والمواثيق القانونية الدولية التي تكفل حق المقاومة.
في دولة الاحتلال يحاول الإعلام أن يصور لنا أن الخروف كلب، وأن الأسود يمكن أن تخاف من الكلاب، وأنها هي صاحبة الحق بامتياز في القضاء على الوجود العربي كله، وكل ذلك من خلال صناعة رأي عام وزراعة بذرة خبيثة في عقول الأجيال القادمة بالتحديد، ترى ماذا نحن فاعلون؟!
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك