في القرنين الأخيرين، لم تحدث مواكبة من الفقه والفكر الإسلامي لحركة حقوق الإنسان، مقارنة بالتطور الكبير الذي شهدته التجربة الغربية على مستوى الأفكار والمؤسسات والتطبيق، كما أن إهدار قيمة الإنسان وحقوقه في أغلب المجتمعات الإسلامية ألقى بظلاله القاتمة على حقيقة عطاء الإسلام للإنسان كقيمة وحقوق، ولعل هذا التناقض الصارخ هو ما جعل الكثيرين يظنون أن هناك تقزماً في المنظومة المعرفية الإسلامية تجاه الإنسان.
ترتبط قيمة الإنسان في المنظومة المعرفية برؤية تلك المنظومة للذات الإنسانية، وبالحقوق المكفولة لها؛ كالحق في الحياة والحرية والمساواة والعدل والكرامة والأمن وتوفر سبل العيش.
أما تعرية الذات الإنسانية من قيمتها هو إضعاف للوجود الإنساني، وشطب للاستخلاف الإلهي للإنسان في الأرض، ولعل من أكبر ما يهدر قيمة الإنسان هو إجباره على التخلي عن أبعاده الروحية، وإحلال الأشياء المادية مكانها، فتلك المساعي تضع الإنسان في حفرة ضيقة، وتغلق رؤيته الكونية العلوية السماوية، وتقرن قيمته بالمنفعة منه، وتقصر الحضور الإنساني بين حدي اللذة والمنفعة، وكلاهما «يُشَيِّئ» الإنسان؛ أي يجعله شيئاً مادياً.
تعرية الذات الإنسانية من قيمتها إضعاف للوجود الإنساني وشطب للاستخلاف الإلهي له، والقيمة تقترب من مفهوم الجوهر، وهي ما يُعطي الشيء أهميته ومكانته، وترتبط في المجال الإنساني غالباً بغير ما هو مادي ومحسوس، وما هو متجاوز للمادة، أما المادة فترتبط غالباً بكل ما هو مُستهلك ومؤقت وحسي ومرتكز على الإشباع واللذة والمنفعة.
ولعل هذا ما أشار إليه الطبيب النفسي فيكتور إي فرانكل، في كتابه «بحث الإنسان عن المعنى»، بتأكيده أن المادية نظرت إلى الإنسان من منظور المنفعة وليس من منظور القيمة المرتكزة على الكرامة، فيقول: «مجتمع اليوم يتميز بالتوجه نحو الإنجاز، وبالتالي فهو يعشق الناجحين والسعداء، ويعشق الشباب بشكل خاص، ويتجاهل، فعلياً، قيمة كل أولئك الذين هم على خلاف ذلك، وبذلك يطمس الفرق الحاسم بين أن تكون ذا قيمة بمعنى الكرامة، وأن تكون ذا قيمة بمعنى المنفعة، إن الخلط بين كرامة الإنسان ومجرد المنفعة، ينشأ من الارتباك المفاهيمي، الذي يمكن إرجاعه بدوره إلى العدمية المعاصرة.«
ولعل هذه النقطة الجوهرية التي لمسها فرانكل هي التي جعلت المنظومة المعرفية الغربية تتفهم وتبرر اللجوء إلى ما أسمته «القتل الرحيم» الذي طبقته ألمانيا النازية، وهو لا يختلف كثيراً في مضمونه عن القتل الرحيم الذي سمحت به بعض الدول لذوي الأمراض المزمنة للتخلص من حياتهم.
أما قيمة الإنسان في ظل التكنولوجيا خاصة الرقمية، فإنها شهدت تراجعاً كبيراً، فتلك التكنولوجيا باتت سؤالاً فلسفياً بعدما أعادت تشكيل الإنسان، ولكن وفق منطق آخر لا ينظر إلى الإنسان كقيمة في ذاته، بل ينظر إلى الإنسان من بُعد واحد، كما أشار الفيلسوف هربرت ماركوز، في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد»، وفي ذلك النظر إهدار لقيمة ذلك الإنسان، الذي جارت التكنولوجيا عليه من الداخل، فصارت في مواجهة بُعده الروحي، مع تغلغلها في مناشط الإنسان وجوانب حياته، لذا بدت التكنولوجيا ككيان مستقل على الإنسان، بل كيان مسيطر على الإنسان.
التكنولوجيا لها دور كبير في إضعاف قيمة الإنسان المعاصر واغترابه في هذا العالم ، ومن ثم تحولت التكنولوجيا إلى سجن للإنسان، لا يستطيع أن ينعزل عنها، أو ينفك من أسرها، فانتقل من كونه سيداً في الكون ليكون خاضعاً لمنطق الآلة ذات القلب الحديدي، فالتكنولوجيا لم تعطِ أي قيمة للإنسان، فحسب الفيلسوف مارتن هايدجر، فإن التكنولوجيا لم تعد أداة؛ بل أصبحت وسيلة لفهم العالم، وتطورت خارج نطاق سيطرة الإنسان، وبات الإنسان لا يرى العالم إلا من خلالها، وبالتالي حجبت التكنولوجيا الإنسان عن ذاته وعن العالم، وهذا الحجب إهدار لقيمة الإنسان.
فالتكنولوجيا، حسب مفكرين غربيين، لها دور في إضعاف قيمة الإنسان المعاصر، ولها مسؤوليتها عن «تَشَيُّؤ» الإنسان واغترابه في هذا العالم، فـ«تَشَيُّؤ» الإنسان يلغي كرامته التي منحها له الله تعالى، أما اغترابه فيلغي دوره الاستخلافي في الكون؛ لذا انكمش الحضور الإنساني في العالم لصالح الآلة، وتراجع استقلال الإنسان الذاتي مع اعتماده الواسع على الآلة، وانعكست تلك التحولات على تغير مكانة الإنسان وعلاقته مع الكون والطبيعة، فإنسان الماضي ولى ولا رجعة له، وهذا لا يعني إلا تراجع تلك القيمة الفريدة التي كان يتمتع بها الإنسان باعتباره ذاتاً مستقلة، وباعتباره سيداً في هذا الكون.
وهذا ما تحدث عنه د. عبدالوهاب المسيري في أن التفكير المادي يرى أسبقية الطبيعة على الإنسان، وهو ما يفرض خضوع الإنسان لقوانين الطبيعة وحتمياتها، لكن الرؤية الإيمانية الدينية ترى أنه إذا كان للطبيعة الأسبقية في الخلق، فإن للإنسان الأفضلية بالتكريم الإلهي، ولذلك فالفلسفة المادية مُعادية للإنسان، عندما ساوت بين الإنسان والطبيعة، فحولته إلى شيء، واختزلته في الجانب المادي.
وتذهب الرؤية الإسلامية إلى أن الإنسان سيد في الكون، وأنه تشرف بأن نفخ فيه الخالق سبحانه تعالى من روحه، فهو كائن مكرم في ذاته، وجاءت الكثير من الآيات والأحاديث النبوية لتؤكد تلك الحقيقة، جاء في تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70): وقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه؛ كرمه بخلقته على تلك الهيئة، بهذه الفطرة، التي تجمع بين الطين والنفخة، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان.
الإنسان في الرؤية الإسلامية سيد في الكون وتشرَّف بأن نفخ فيه الخالق من روحه وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته، التي استأهل بها الخلافة في الأرض، يغير فيها ويبدل، وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل، ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة.
وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض، وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك، وكرمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة، ويعلن فيه الخالق، جل شأنه، تكريم هذا الإنسان! وكرمه بإعلان هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملأ الأعلى الباقي في الأرض؛ القرآن.«
وفي التطبيق النبوي لقيمة الفرد، أنه صلى الله عليه وسلم وقف حينما مرت به جنازة يهودي، وعندما تعجب أصحابه من ذلك قال لهم: «أليست نفساً؟«
أما ابن خلدون فيقول في تاريخه، عن تلك القيمة التي يحظى بها الإنسان: «والإنسان رئيس بطبعه، بمقتضى الاستخلاف الذي خُلق له«.
وفي كتابه «من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر»، ينتقد الفيلسوف طه عبدالرحمن تجزئة مدارك الإنسان، فهذه التجزئة ما هي إلا إضعاف لقيمة الإنسان، لأنها تلغي إحياء الروح الإنسانية التي هي مستودع الأسرار والوجود، وحسب عبدالرحمن، فخفض قيمة الإنسان بتحويله إلى ما يشبه الآلة والسلعة والمعلومة؛ لأن الأصل في الآلة التجريد والتجزئة، أما السلعة فمبناها على الثمن والربح، والمعلومة مبناها على الرقم والافتراض، وهذا يُخفض قيمة الوجود الإنساني ويضيقه.
أما الإسلام فشأن آخر بالنسبة إلى قيمة الإنسان، فكما يقول عبدالرحمن: «وتجديد الإنسان إنما يكون بإخراجه من وضع الآلة إلى وضع الآية، ومن وضع السلعة إلى وضع الهبة، ومن وضع المعلومة إلى وضع النفحة؛ أي الفطرة»، وبذلك تتكامل عناصر الوجود ومعانيها في الإنسان، ويحظى بالتكريم والقيمة.
{ باحث في العلوم السياسية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك