في قاموس العلماء لا يوجد مصطلح «الحد الآمن للتلوث»، ولا يعرف العلماء مصطلح «الحدود الآمنة والسليمة للملوثات في بيئتنا»، فالتلوث، بحسب إجماع أهل العلم والخبرة والاختصاص، مدمر لصحة الإنسان والكائنات الحية الأخرى مهما كان تركيز هذه الملوثات. فإذا اقْتنعتَ بكلامي هذا، فلا داعي لمواصلة قراءة المقال، وإذا كُنتَ تحتاج إلى المزيد من الأدلة الدامغة، والبراهين الشافية لكي تقتنع فواصل القراءة.
فقد خلق الله سبحانه وتعالى البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية بقدرٍ محدد وفي توازن دقيق جداً وهش، فهناك علاقة حميمية ومصيرية تربط بين كل كائن حي من نبات أو حيوان والبيئة التي يعيش فيها، كما أن هناك علاقة قوية ووجودية بين مكونات البيئة غير الحية. فالأنهار مرتبطة بالبحيرات والبحار، والجبال الراسية مرتبطة بتربة وسطح الأرض، والهواء الجوي مرتبط بالمسطحات المائية جميعاً، وأي خلل في أي علاقة من هذه العلاقات، وأي تغيير عشوائي دون علم ومعرفة وتجربة سابقة يسبب شكوى وتداعيا مَرَضيا لسائر الروابط والعلاقات.
فمكونات الهواء الجوي النظيف الطبيعي الذي خلقه الله تجلت قدرته من الغازات والمواد الكيميائية، كالأكسجين، والنيتروجين، وثاني أكسيد الكربون، وغيرها موجودة بقدر واتزان دقيق جداً، وعند هذا القدر، أو التركيز والنسبة الموجودة في الهواء الجوي، يلعب هذا الغاز دوره المَرسُوم له ضمن هذا الكون الفسيح والعظيم. فإذا انخفض تركيزه أحدث خللاً في التوازن وأدى إلى ظهور مشكلة بيئية تهدد حياة الإنسان، وفي المقابل إذا ارتفع تركيز هذه المادة الكيميائية فعندئذٍ أيضاً سنخلق لأنفسنا وكوكبنا طامة كبرى لا يعرف أحدٌ عواقبها علينا وعلى الأحياء التي تعيش معنا. كذلك إذا أدخلنا مادة كيميائية جديدة لم تكن موجودة أصلاً إلى الهواء الجوي، أو مكونات وعناصر البيئة الأخرى، فإننا حتماً سنزيد من معاناتنا البيئية والصحية وننزل على أنفسنا كرباً عقيماً نحن في غنى عنه.
ولذلك في الحالات الثلاث التي ذكرتُها، من حدوث انخفاضٍ في تركيز احدى المواد الكيميائية الطبيعية في الهواء، أو زيادة في نسبتها، أو السماح لدخول مادة كيميائية جديدة غير فطرية إلى الهواء الجوي، فعند وقوع أي من هذه الحالات، فإننا سنعيش في بيئة غير آمنة، وغير سليمة، وتؤدي مع الزمن إلى نزول مشكلات بيئية ثم صحية وتُعرضنا للإصابة بالأمراض الجديدة والغريبة المستعصية على العلاج.
وانطلاقاً من هذه الثوابت والحقائق، فعند ارتفاع تركيز أي مادة كيميائية عن الحد الموجود طبيعياً، حتى لو كانت فطرية وطبيعية موجودة في الهواء الجوي الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، فإن هذه المادة تتحول تلقائياً وفورياً إلى «ملوث للبيئة»، أي ستقع ضمن قائمة الملوثات التي تهدد صحة الإنسان وسلامة البيئة، مثل غاز ثاني أكسيد الكربون الموجود أصلاً في الهواء النظيف والمسبب الآن لمشكلة العصر وهي التغير المناخي، وينطبق عليه المثل الشعبي «إذا زاد الشيء عن حَدِّه انقلب إلى ضده». كذلك إذا دخلت مادة كيميائية جديدة في الهواء، فهي أيضاً تُصنف ضمن الملوثات البيئية، وأمثلة مثل هذه المواد كثيرة لا تعد ولا تحصى.
فالهواء الجوي العادي الذي نستنشقه الآن بصفة عامة «غير آمن» وغير سليم لصحة الإنسان، ولا يستطيع أي إنسان أن يُصرح غير ذلك فيقول بأن الهواء في مدينتي «آمن وسليم وصحي». ففي كل مكان حول العالم بدون استثناء، إما أن هناك ملوثات جديدة دخلت الهواء الجوي فدهورت نوعية الهواء، وإما أن هناك ارتفاعاً كبيراً قد شهدناه في تركيز المواد الكيميائية التي هي موجودة أصلاً في الهواء الجوي. ولذلك أصدرت «الوكالة الدولية لأبحاث السرطان»، وهي الذراع العلمية البحثية لمنظمة الصحة العالمية حول السرطان، في 17 أكتوبر 2013 المنشور رقم (109)، وجاء فيه أن الوكالة قد قامت بتصنيف «تلوث الهواء في البيئة الخارجية» بأنه مسرطن للإنسان ضمن المجموعة الأولى، حيث إن التعرض للهواء الملوث الخارجي يؤدي إلى الإصابة بسرطان الرئة. كذلك صنَّفت الوكالة الدخان، أو الجسيمات الدقيقة في الهواء الجوي بأنها أيضاً مسرطنة للإنسان ضمن المجموعة الأولى نفسها.
ولذلك الحل الواقعي والعملي الذي ابتدعه العلماء لعلاج هذه الظاهرة الخطيرة المهددة لأمن وسلامة الهواء الجوي هو نظام المواصفات والمعايير للهواء الجوي. وهذا المعيار الذي يقترحه العلماء هو ليس الحل الأمثل لحماية صحة الإنسان وبيئته، ولكن هو أضعف الإيمان، والأقل ضرراً على صحتنا. وهذا المعيار الذي يحدده العلماء «ديناميكي» في طبيعته، أي متغير وغير ثابت، فيتغير مع الزمن كلما نضجت جهود ودراسات العلماء، ويختلف من مدينة إلى أخرى حول العالم بحسب ظروفها المناخية والبيئية، فلا توجد إذن معايير ومواصفات دولية أجمعت عليها وتبنتها كل دول العالم.
وهناك الكثير من المعايير الخاصة بجودة الهواء التي وُضعتْ في السبعينيات من القرن المنصرم، قد تغيرت عدة مرات منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا لعدة أسباب، منها أن الدراسات التي أُجريت بعد وضع هذه المعايير أثبتت أنها غير مجدية لحماية صحة الإنسان والكائنات الحية الأخرى، ولذلك عملوا على تغييرها وخفض تركيزها.
وسأُقدم مثالاً واحداً فقط من بين أمثلة كثيرة حول ديناميكية المواصفات الخاصة بجودة الهواء وتغيرها مع الزمن، بحسب نتائج الدراسات العلمية. فالولايات المتحدة الأمريكية تُعتبر من أولى الدول في تشريع قانون خاص حول «الهواء النظيف» والمتعلق بجودة الهواء في 15 ديسمبر 1963. وهذا القانون انبثقت منه في عام 1971 معايير جودة الهواء، حيث حدد بأنه لا يتعدى المعدل السنوي للجسيمات الدقيقة (الدخان) التي قطرها لا يتجاوز 2,5 مايكرومتر عن 15 مايكروجراماً من هذه الجسيمات الدقيقة في المتر المكعب من الهواء الجوي. ثم طرأت عدة تعديلات على معايير جودة الهواء، منها في عام 1977 وعام 1990، حيث حددت التركيز الذي يحمي صحة الإنسان من الدخان أو الجسيمات الدقيقة بتركيز هو 12. وفي 7 فبراير 2024 حدث تغيير آخر حدد فيه المواصفة الخاصة بالجسيمات الدقيقة بـ 9 مايكروجرامات في المتر المكعب، أي تغييرات مستمرة، وفي كل مرة يتم خفض التركيز. ونظراً لعدم اتفاق دول العالم على معايير محددة لجودة الهواء، فنجد أن منظمة الصحة العالمية أصدرت في 22 سبتمبر 2021 مبادئ توجيهية بشأن جودة الهواء، وحددت فيها بأن المعيار الاسترشادي للمعدل السنوي للجسيمات الدقيقة هو 5 مايكروجرامات من الجسيمات الدقيقة في المتر المكعب من الهواء الجوي، أي أقل من المواصفة الأمريكية، علماً بأن المعيار السابق لمنظمة الصحة العالمية كان أعلى وهو 10 مايكروجرامات في المتر المكعب.
وهذا المثال الخاص بالتغير المستمر لمواصفة الدخان، أو الجسيمات الدقيقة في الهواء الجوي، ينطبق أيضاً على الملوثات الأخرى، مثل غاز الأوزون، وثاني أكسيد النيتروجين، وأول أكسيد الكربون، وأكاسيد الكبريت، وغيرها.
وهكذا نؤكد بأن الملوثات في الحالات الثلاث التي ذكرتُها سابقاً كلها تفيد بأنها «غير آمنة» على صحة الإنسان، ووجودها بأي تركيز مهما كان منخفضاً يجعل الهواء أيضاً غير آمن وغير سليم لاستدامة حياة الإنسان والتمتع بصحة جيدة خالية من الأسقام والعلل.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك