في الثامن والعشرين من مارس2024م وبمقر الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية بالرياض أعلن السيد جاسم البديوي الأمين العام للمجلس عن رؤية مجلس التعاون للأمن الإقليمي وذلك بحضور ممثلي وزارات الخارجية في الدول الخليجية الست وبعض الدول والمنظمات الإقليمية، وقبيل الخوض في البنود الخمسة عشر المعلنة والتي كانت خلاصة المناقشات التي دارت بين الحضور حول تلك القضية، في تقديري أنه تطور لافت في ظل ثلاثة اعتبارات أولها: حالة الضبابية التي تسود المنطقة بشأن بيئة الأمن الإقليمي على خلفية احتدام الصراعات على نحو غير مسبوق والتي أوجدت تحديين وهما دخول الجماعات دون الدول كفاعل في تحولات الأمن الإقليمي ثم توظيف التكنولوجيا في تلك الصراعات بما يطيل أمدها ويتطلب قدرات نوعية لمواجهتها من منظور جماعي، وثانيها: إن منطقة الخليج العربي لطالما كانت ساحة لتلقي مبادرات للأمن من جانب القوى الكبرى ومنظمات مثل الناتو والاتحاد الأوروبي سواء تلك التي استهدفت دول الخليج تحديداً أو الإطار الإقليمي أو الشرق الأوسط والخليج والتي أثارت تساؤلاً رئيسياً عند إطلاقها: وماذا عن المبادرة الخليجية للأمن الإقليمي؟ وثالثها: إن تنظيمات الأمن الإقليمي والتي يصنف مجلس التعاون كواحد منها اعتادت أن تصدر خططا ومفاهيم استراتيجية كل عدة سنوات ومنها حلف الناتو على سبيل المثال تعكس رؤيتها للأمن الإقليمي.
وبالعودة سريعاً إلى ظروف تأسيس مجلس التعاون ذاته في 25 من مايو عام 1981م بالعاصمة الإماراتية أبوظبي وبمبادرة من سمو أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح، فإن تأسيس مجلس التعاون ذاته كتنظيم كان مبادرة أمنية استهدفت الحفاظ على أمن دوله الأعضاء الست في مواجهة تحديات أمنية إقليمية هائلة آنذاك وهي الثورة الإيرانية واندلاع حرب ضروس بين العراق وإيران دامت ثماني سنوات واحتدام الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي آنذاك وما تطلبته من حتمية اصطفاف الدول في هذا المعسكر أو ذاك، بما يعنيه ذلك من أن مسألة تجمع دول الخليج العربي تحت تلك المظلة الإقليمية لم تكن بسبب القواسم التي تجمعها على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية والثقافية فحسب وإنما ترجمة تلك الروابط في إطار جماعي لمواجهة تلك التحديات من خلال ميثاق مكون من ديباجة واثنين وعشرين مادة توضح أهداف تأسيس المجلس وما يطمح إليه وحقوق وواجبات الدول الأعضاء.
ذلك الميثاق الذي كان مثار اهتمام العديد من باحثي الدول الغربية الذين رأوه وضع بشكل مغاير لمواثيق المنظمات الإقليمية من حيث تجنب الحديث عن القضايا الأمنية والدفاعية والتركيز على فكرة التكامل بشكل عام في جميع المجالات وصولاً إلى الوحدة في كل المجالات بما فيها المجالين الأمني والدفاعي بشكل تدريجي، إلا أن باحثي المنطقة يرون أن تلك نقطة قوة للميثاق بل إنه يعكس أسس السياسات الخارجية للدول الأعضاء، فمجلس التعاون لم يكن موجهاً ضد أحد وإنما استهدف ترسيخ فكرة توازن القوى التي هي أساس تحقيق الأمن الإقليمي من خلال تلك المنظومة الإقليمية التي كانت المظلة الأمنية خلال كل الأزمات التي شهدها الأمن الإقليمي وتطلبت العمل الجماعي الخليجي والذي ارتكز على الاتفاقيات التي تم إبرامها في المجلس ومنها اتفاقية الدفاع الخليجي المشترك عام 2000 التي تنص مادتها الثانية وبوضوح على أن أي اعتداء على دولة خليجية يعد اعتداءً على كل الدول الأعضاء بما يستوجب الرد وهي تضاهي المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو، بالإضافة إلى تأسيس وتطوير قوات درع الجزيرة وغيرها من عشرات الاتفاقيات التي تعكس رغبة وإرادة وتصميم دول الخليج على العمل المشترك ولا يتسع المجال لذكرها، بل إن المجلس ذاته قد شهد تطوراً مؤسسيا من خلال استحداث الهيئة الاستشارية عام 1997م مكونة من 30 فردا بواقع 5 من كل دولة من ذوي الكفاءات لتقديم رؤاها حول القضايا التي تحال إليها من المجلس الأعلى وكذلك استحداث آلية القمم التشاورية عام 1999 وهي لا تحتاج إلى إجراءات بروتوكولية لانعقادها بما يحقق سرعة الاستجابة لمناقشة أي مستجدات، فضلاً عن الشراكات والحوارات الاستراتيجية التي بدأها مجلس التعاون مع التجمعات المماثلة في مناطق مختلفة من العالم.
وعود على ذي بدء فإن المبادئ الخمسة عشر التي أسفر عنها اجتماع الرياض المشار إليه تمثل خارطة طريق مستقبلية يمكن البناء عليها في بلورة مبادرات بشأن الأمن الإقليمي بما يصون المصالح الخليجية وسط تلك التحولات الإقليمية المتسارعة، حيث يمكن تصنيف تلك المبادئ في ثلاثة مسارات الأول: تحديد قائمة التهديدات التي تواجه مجلس التعاون والتي لوحظ أنها لم تعد التقليدية فحسب مثل أسلحة الدمار الشامل أو الإرهاب بل شملت القائمة الأمن البحري والأمن السيبراني والتغير المناخي والأمن الغذائي وأمن الطاقة وهي جميعها قضايا لا يمكن لأي دولة مواجهتها بمفردها مهما بلغت إمكاناتها وتأكد ذلك خلال جائحة كورونا وتداعيات الحرب في أوكرانيا، المسار الثاني: مضامين وآليات دول الخليج للتعامل مع تحديات الأمن الإقليمي من خلال استمرار جهود الوساطة وحل الخلافات بالحوار وتجنيب المنطقة التصعيد والدفع نحو إيجاد حل شامل للقضية الفلسطينية وفقاً للقرارات الدولية التي تتضمن حل الدولتين، أما المسار الثالث: فهو تعزيز الشراكات الدولية بما يستهدف الحفاظ على الأمن الإقليمي.
وربما يرى البعض أن تلك المبادئ تتسم بالعمومية ولكنها برأيي رؤية متقدمة ومهمة يمكن البناء عليها في بلورة استراتيجيات فرعية حول قضايا محددة بتوافق خليجي على غرار ما يقوم به حلف شمال الأطلسي «الناتو» كل عشر سنوات من خلال إصدار المفهوم الاستراتيجي الذي يخضع لمناقشات مطولة بين دول الحلف أولاً ثم مع الشركاء خارج منطقة الأطلسي ثانياً، الأمر الثاني هو أن إطلاق تلك الرؤية قد جاء في ظل توجه منظومة الأمن الإقليمي برمتها نحو التغيير سواء في اللاعبين أو القضايا في أعقاب حرب غزة على نحو يجعل من وجود رؤية خليجية موحدة ضرورة استراتيجية.
إن مجلس التعاون ذلك التنظيم الإقليمي الذي يعد بقاؤه في حد ذاته مصدر قوة وصلابة لأمن دوله الست في ظل تواري تنظيمات مماثلة أو تجميد عمل أخرى، يدرك اليوم أن ثمة حاجة إلى مناقشة ملامح الدور الخليجي تجاه تحولات الأمن الإقليمي ويرتكز على قدرات دوله الصلبة والناعمة وميراث العمل ممتد وأكد وبما لا يدع مجالاً لأدنى شك فكرة المصير المشترك، كما يدرك التداخل بين دوائر الأمن بما يعنيه ذلك من أن استمرار مسار الشراكات التي تسهم في تحقيق ذلك الأمن هو أمر ضروري، وأخيراً تحقيق الاستقرار وتجنب التصعيد الذي قد يطال الجميع.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك