زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
حكايتان وموعظتان
كليلة ودمنة عمل أدبي نقله الى العربية عبدالله ابن المقفع من اللغة الفهلوية (الهندية)، وتلعب فيه الحيوانات والطيور ادوارا رئيسة، تقوم فيها مقام البشر شخصيات بشرية وتتضمن القصص عدة مواضيع، من أبرزها العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بالإضافة إلى عدد من الحِكم والمواعظ. واليكم اليوم حكاية قريبة من عوالم كليلة ودمنة عن حاكم في قديم الزمان، قام بجولة في أرجاء بلده شاسع المساحة، فتورمت قدماه بسبب وعورة الطرق، فأصدر قراراً بتغطية وفرش كافة الطرق الرئيسية بجلود الحيوانات، ولكن مستشاراً أميناً قال له إن ذلك في حكم المستحيل، لأنه يعني على أقل تقدير إبادة الحيوانات الأليفة والمتوحشة في الدولة، وإن الحل يكمن في لف وتغطية قدم الحاكم بقطعة من الجلد أو القماش السميك وهكذا عرفت البشرية الأحذية.
طبعاً الحكاية من نسج الخيال، لأن الإنسان ومنذ أقدم العهود، أي عندما كان العيش في الغابات والجبال صيادا ولاقطا للثمار عرف كيف يحمي قدمه من الأشواك والحجارة ولدغ الحشرات باستخدام ما تيسر من مواد طبيعية، ولكن ما يستفاد من حكاية الحاكم الذي أراد فرش أراضي دولته بالجلود، هو أنه إذا لم تستطع تغيير ما حولك، فابدأ بتغيير نفسك وبعدها قد تنجح في تغيير العالم من حولك. وابدأ بالحلول البسيطة والمتدرجة، لكي تصل إلى حل أكثر شمولية للمشكلة التي تعاني منها.
واليكم حكاية دارت وقائعها في أحد الأسواق، حيث اعتاد رجل أعمى على الجلوس في موقع معين ممسكاً بيده لافتة كتب عليها «أرجو مساعدتي لأنني أعمى»، وكان يضع أمامه صندوقاً من الكرتون يلقي فيه المحسنون بقطع معدنية، وذات يوم مر بالأعمى رجل يعمل في مجال الإعلانات، ورأى أن حصيلة الأعمى من التسول هزيلة، فأخذ اللافتة من دون أن يستأذن من الأعمى، وكتب عليها بضع كلمات ثم أعادها إليه، وارتفع صوت الأعمى بالاحتجاج، لأنه كان يتوقع من الرجل عطية مجزية وانصرف رجل الإعلانات إلى حال سبيله، وبمرور الوقت ازداد الأعمى حزناً لأنه لم يسمع رنين النقود منذ أن انتزع مجهول اللافتة التي تقول اعمى وبحاجة إلى مساعدة من يده وكتب عليها شيئاً ما ثم أعادها إليه، وعندما أدرك أن المساء حل، جمع حاجياته وهو يتحسر على ضعف حصيلة يومه من التسول، ثم مد يده إلى الصندوق الكرتوني لجمع ما به من قطع معدنية قليلة، فإذا بأصابعه تلامس أوراقاً كثيرة، فنادى الأعمى على صاحب المتجر الذي يجلس أمامه ليكشف له أمر الأوراق التي في الصندوق، فأبلغه الأخير أنها أوراق نقدية كثيرة وعالية القيمة. هنا طلب الأعمى من صاحب المتجر أن يقرأ له الكلام المكتوب على اللوحة التي في يده، فقرأها وكان نصها كما يلي: «نحن في فصل الربيع ولكنني لا أستطيع التمتع بجماله».
وما يستفاد من هذه الحكاية هو أننا جميعاً، بما فينا المتسولون بحاجة إلى آراء وتوجيهات ذوي الشأن والاختصاص لتحقيق النتائج التي ننشدها.. فانظر كيف استخدم رجل الدعاية والإعلانات كلمات بسيطة جعلت الناس يحسون أكثر بمعاناة الأعمى ويتكالبون لتقديم العون المالي له.
في عاصمة خليجية رأيت ذات مرة محلا يحمل اسم «البعير للدواجن الحية»، وعندما عدت بعدها بعدة أشهر إلى الشارع الذي كان فيه ذلك المحل لالتقط صورة للافتة، اكتشفت أن المحل قد اختفى، وأدركت أن سوء اختيار الاسم أبعد عنه الزبائن.
في لندن تصدر مجلة اسمها بيغ إشو Big Issue تعنى بشؤون المشردين، ويقوم المتشردون ببيعها ويشتريها الناس من باب التصدق، لأن عائدات مبيعها تنفق لتوفير المأوى والطعام للمشردين، وأتذكر الرجل الذي كان يبيعها في محطة «هانغرز لين» لقطارات الأنفاق في غرب لندن التي كنت استخدمها يومياً، وكانت الخمر تفوح من خياشيمه، وكان يغفو وهو واقف، ثم إذا أحس باقتراب اقدام منه صاح بأعلى صوته: بيغ إشو.. فيكاد قلبك أن يتوقف لأنه ينطقها وكأنه يشتمك، وينتهي اليوم من دون أن يبيع نسخة واحدة.. فانظر بين حاله وحال الأعمى الذي قام خبير بتحسين أحواله بالكلمة الحلوة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك