أصدر مجلس الأمن، وهو الجهاز الرئيس المنوط به التعامل مع ما يمس الأمن والسلم الدوليين، القرار رقم 2728 في الـ25 من مارس الماضي بغالبية 14 صوتا في مصلحته وامتناع الولايات المتحدة.
ركز القرار على ثلاث زوايا رئيسة، الوقف الفوري لإطلاق النار في غزة حتى نهاية رمضان والاتجاه نحو وقف كامل والإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن وتسهيل الإجراءات لتوفير ونشر المساعدات الغذائية والطبية والإنسانية.
أعتبر أن صدور القرار أفضل من عدمه لأنه بداية لاستعادة مجلس الأمن جزءاً من صدقيته بعد أن تلعثم وفشل في التعامل مع الموقف منذ بداية الحرب، ومع تحفظي على بعض الصياغات والمواءمات بالقرار، أرى أن صدوره يعد خطوة تتسق جزئياً مع التوجه المتنامي في الرأي العام الدولي الداعم لوقف إطلاق النار، والرافض تماماً لاستمرار العمليات الإسرائيلية.
هناك عدد من ملاحظات وتقديرات أخرى تحمل في طياتها معاني ومفاهيم وتداعيات سلبية، ومنها أن تأخر المجلس وتبني القرار بعد مرور أكثر من سبعة أشهر من بداية الحرب يعتبران دليلاً واضحاً على أن النظام الدولي وأجهزته الرئيسة لم يعودا فاعلين، بل إن الدول الخمس دائمة العضوية لا تقدر أو تحترم المسؤولية الخاصة التي تقع على عاتقها.
وتأخر مجلس الأمن في التحرك، على رغم تعرض نسبة كبيرة من الفلسطينيين لأزمات طبية ومجاعات وتهجير قصري، يعد مؤشراً واضحاً على أن النظام الدولي المعاصر فقد بوصلته القانونية والأخلاقية والإنسانية.
وكالعادة أعلنت إسرائيل أنها لن توقف إطلاق النار، ولم تظهر أي اكتراث لما خلص إليه مجلس الأمن، وهو ما فعلته أيضاً منذ أشهر قليلة تجاه المخرجات الأولية لمحكمة العدل الدولية حول الإبادة الجماعية، وللأسف قوبل هذا الموقف غير المشروع بتردد وسلبية من حكومات العالم حتى الآن التي تجنبت محاسبة إسرائيل على مخالفاتها القانونية والإنسانية تجاه فلسطيني قطاع غزة، مما يهدد بانزلاق المجتمع الدولي بمعدلات أسرع نحو ترجيح القوة والوحشية على القانون، من خلال ممارسات الغابة على حساب القواعد والقوانين الدولية التي تحافظ على الحد الأدنى من العدالة وتوازن المصالح والحقوق المشروعة بين أعضاء المجتمع الدولي بضبط وتنظيم ممارساتهم في الحرب والسلام.
وجدت في صياغة القرار عدداً من المواءمات والصياغات غير المتوازنة، مثل أن الدعوة إلى وقف إطلاق النار اقتصرت فقط على ما تبقى من شهر رمضان، وهي فترة قصيرة للغاية، لن تسمح باستقرار الأمور أو حتى توفير وتوزيع القدر الكافي من المساعدات الإنسانية والطبية، كما تفتح بعض الصياغات الباب ضمنياً لإسرائيل لاستئناف عملياتها العسكرية بعد انقضاء هذه المدة، إذا افترضنا التزامها بوقف إطلاق النار أصلاً.
ويلاحظ أنه حين لم يدعُ المجلس إلى وقف فوري ومستمر لإطلاق النار طالب بالإفراج الكامل وغير المشروط عن المختطفين، وأغفل الإشارة كلية إلى المحتجزين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية الذين تزايدت أعدادهم مع اعتقال إسرائيل لكثير من الفلسطينيين الجدد، وبما يتجاوز من أطلق سراحهم في إطار الإفراجات الإسرائيلية- الفلسطينية المتبادلة أخيراً.
ويعتبر بعضهم أن عدم استخدام الولايات المتحدة لحق النقض وقبولها ضمنياً بوقف إطلاق النار، حتى لو كان قصير المدى بمثابة خطوة أمريكية في الاتجاه الصحيح، ومن الناحية النظرية ربما تكون كذلك، غير أنني أرى أن الموقف الأمريكي الأصلي كان سيئاً والجديد لا يزال قاصراً.
وهناك أسباب عدة تجعلني غير متحمس كثيراً للتغيير في الموقف الأمريكي الذي ما زلت أعتبره غير كافٍ ولا يلبي الغرض وهو إنهاء معاناة الفلسطينيين، فضلاً عن أنه لا يرتفع إلى مستوى المسؤولية المطلوبة من دولة كبرى، وأول تلك الأسباب أن التغيير في الموقف الأمريكي جاء متأخراً للغاية بعد أشهر عدة من المعارك وقتل ودمار متواصلين.
والسبب الثاني هو أن وقف إطلاق النار المقترح جاء مدة محددة وقصيرة، في حين أن المطلوب هو وقف كامل وثابت ونهائي، كما صاحب هذا التغيير البسيط في الموقف الأمريكي ضغط شديد منها خلال المفاوضات لتخفيف النص وربطه ضمنياً بالإفراج عن الرهائن.
وأغرب ما رأيناه اتصالاً بصدور قرار مجلس الأمن كان تصرف المندوبة الدائمة للولايات المتحدة بالأمم المتحدة التي استفاضت في شرحها للتصويت، في الربط الضمني بين مختلف هذه العناصر، مما يفتح الباب لجدل حول جعل وقف إطلاق النار مرهوناً بالإفراج عن الرهائن.
وإنما الأهم والأخطر والأسوأ كان تأكيد المندوبة الدائمة مرات عدة ومن بعدها المتحدث الرسمي الأمريكي على أن قرار مجلس الأمن غير ملزم، كأن ذلك دعوة إلى عدم الالتزام بالقرار ورغبة في تحصين المخالفين له من المساءلة.
وبصرف النظر عن الجدل حول الصياغة أو صدور القرار تحت الفصل السادس أو السابع من الميثاق كان تصرف السفيرة سابقة غريبة، فلم تجرِ العادة أن تقوم دولة دائمة العضوية بتبني هذا الرأي بعد صدور قرار من مجلس الأمن عامة، خصوصاً ما لم تعترض عليه، ومن الملاحظ أن المندوب الدائم البريطاني السابق مارك ليال جرانت أخذ موقفاً مختلفاً تماماً، إذ أعلن أن القرار ملزم لإسرائيل باعتبارها دولة عضو في الأمم المتحدة، وهو ما أكده أيضاً المندوب الدائم الصيني في الأمم المتحدة تشانغ جون، وكذلك متحدث الأمم المتحدة الذي أعلن أن قرارات المجلس جزء من القانون الدولي ومن ثم تعتبر ملزمة.
ويثير موقف الولايات المتحدة من موضوع غزة حتى الآن تساؤلات عدة، سواء كان ذلك حول تقديراتها ومسؤولياتها الدولية عامة، أو حول مواقفها في الشرق الأوسط خصوصاً، وأعتقد بأنها فقدت كثيراً من صدقيتها المحدودة في المنطقة نتيجة معارضتها لوقف إطلاق النار طوال أشهر واستمرار توريدها للسلاح الأمريكي لإسرائيل، حتى بما يخالف القوانين الأمريكية التي تحظر استخدامها ضد المدنيين.
ولقد اهتزت هيبة الولايات المتحدة بعد التراشق الإسرائيلي- الأمريكي حول الوضع في رفح وإزاء صدور قرار من مجلس الأمن حول غزة، بعد إعلان رئيس وزراء إسرائيل أنه عاقد العزم على القيام بعمليات عسكرية برية ضخمة في رفح حتى إذا اعترضت الولايات المتحدة، ثم تهديد تل أبيب العلني بإلغاء زيارة مقررة مسبقاً لمسؤولين إسرائيليين إلى واشنطن تلبية لدعوة مباشرة من الرئيس الأمريكي، إذا لم تعترض الولايات المتحدة على قرار مجلس الأمن لتعرقل صدوره حتى بعد تخفيفه، وقيام إسرائيل بالفعل بإلغاء الزيارة بعد التصويت على القرار مباشرة وامتناع الولايات المتحدة عن التصويت عليه، بدلاً من استخدام الفيتو، في صفعة علنية ومباشرة للولايات المتحدة وحاميها وحليفها، الرئيس جو بايدن شخصياً صاحب المقولة الشهيرة «أنا صهيوني»، بصرف النظر أنها أعلنت بعد ذلك أنه اتُفق على إتمامها مرة أخرى.
وليس من المبالغة القول إن تطورات الأسابيع المقبلة ستكون لها آثار مهمة على أهل غزة وعلى استقرار الشرق الأوسط، وستشكل امتحاناً فاصلاً وحقيقياً وقد يكون أخيراً لفاعلية النظام الدولي ومؤسساته، وستخلق ظروفاً كاشفة لمكانة الولايات المتحدة وهيبتها وسياساتها، وعلى الكل اتخاذ مواقف مبدئية قوية وحكيمة إذا أرادوا الحد من تداعيات خطرة على جميع الأطراف.
{ وزير الخارجية المصري السابق
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك