تحدثنا في مقالين سابقين (13 و23 مارس 2024 – أخبار الخليج) حول الطموحات الاقتصادية من الرؤية. كانت التحديات الاقتصادية الواردة في الرؤية مواجهة البطالة ورفع مستوى المعيشة والتعليم والصحة، اضافة الى ارتفاع الدين العام والزيادة السكانية. خلصنا الى ان الهدف الاقتصادي هو رفع مستوى دخل الأسرة إلى الضعف في 2030.
لتحقيق الطموحات الاقتصادية وضعت رؤية 2030 هدفا اقتصاديا عاما يتمثل في «نمو اقتصادي قوي يحقق المنفعة لشعب البحرين». يتحقق ذلك بتعزيز دور القطاع الخاص ومن خلال تحسين الانتاجية والمهارات، تطوير وتنويع الاقتصاد بالتركيز على القطاعات ذات الامكانيات العالية، تحويل الاقتصاد تدريجيا الى اقتصاد انتاجي معرفي بالاستفادة من الفرص الناشئة الجديدة وتطوير الابتكار. التحدي الذي يواجهنا هو ان يحقق الاقتصاد نموا يفوق معدل التضخم والزيادة السكانية، وكذلك وضع سياسات اعادة توزيع لضمان استفادة الجميع من الزيادة. كل ذلك سوف يعتمد على مدى التقدم في الابتكار والانتاجية.
وضعت الرؤية سياسات لزيادة انتاجية القطاع الخاص وجعل البحريني الخيار المفضل. ولتقليل الاعتماد على العمالة الأجنبية، أكدت الرؤية أهمية الاعتماد على توظيف التكنولوجيا في عمليات الإنتاج بدلا من العمالة الأجنبية ذات التكلفة المنخفضة لكي يتمكن القطاع الخاص من توفير فرص مجزية للمواطنين اسوة بالقطاع المالي. ومع وجود تماسك واتساق بين الهدف والسياسة المتبناة في الرؤية (توظيف التكنولوجيا)، إلى أي مدى تمكنا من توظيف التكنولوجيات و«جعل البحريني الخيار الأفضل». وكيف يمكن مزج دور القطاع الخاص بالقطاع العام في مفهوم الدولة الانمائية لرفع الانتاجية والابداع وخلق فرص عمل للبحرينيين؟ هذه المحاور نتطلع إلى ان تتناولها الرؤية 2050 بشيء من التحليل والتفصيل.
بالنسبة الى تطوير وتنويع الاقتصاد بتشجيع الاستثمار، التوجه هو في التركيز على القطاعات ذات الإمكانيات العالية؛ والعمل على زيادة الناتج المحلي الإجمالي في القطاعات غير النفطية من خلال تنويع مسارات الاقتصاد الوطني مع الابقاء على القطاع المالي محركا اساسيا للنشاط الاقتصادي.
هذا يطرح السؤال: لماذا لا يكون المحرك هو القطاع الصناعي الذي يعتبر من أهم عناصر الاقتصاد الحقيقي؟ صحيح ان القطاع المالي يوفر رأس المال المناسب للقطاعات الاخرى، الا ان مساهمته في التنويع الاقتصادي وفي القطاع الصناعي على مدى ربع قرن لم تكن بقدر ما نطمح اليه، خصوصا فيما يتعلق بإقامة صناعات كبيرة موجهة نحو التصدير أو التشبيك مع الصناعات الخليجية الاخرى. مثل هذه الامور بحاجة إلى مناقشة استعدادا لوضع الرؤية الجديدة، وكما وجه سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير سلمان بن حمد آل خليفة فإن على المجتمع المساهمة في المناقشة وطرح الرؤى وان تتوافر له البيانات التي تساعده في ذلك.
فيما يتعلق بتشجيع الاستثمار في قطاعات اقتصادية وتنمية قطاعات التصدير، وضعت الرؤية مؤشرين للقياس والمتابعة، الاول معدل نمو الناتج المحلي الحقيقي، والثاني مستوى مساهمة القطاعات في خلق فرص عمل واعدة. مؤشر خلق فرص عمل مهم، لكن الأكثر أهمية ان يتضح الفرق بين الأداء في السنوات السابقة والأداء الحالي، وان نبحث في أسباب نسبة البطالة الراهنة. وبما ان خلق فرص العمل هو من التحديات الرئيسية لأي اقتصاد ينبغي ان يُبحث الموضوع بعمق لمعرفة أسباب استمرارها. هناك الكثير من الاطروحات حول الأسباب، مثل التعليم وانخفاض كلفة العمالة الأجنبية. لكن للمضي قدما المطلوب تحليل موضوعي يضع جميع الاحتمالات ويقيمها لمعرفة المعوق الرئيسي، وان توضع الحلول وبرامج لتنفيذها.
اما المؤشر الاقتصادي الآخر الذي اعتمدته الرؤية فكان «معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي». مؤشر مهم ولكنه عام لا يمكن ربطه مباشرة بأي من المستهدفات او المبادرات. لذلك يحتاج الامر إلى مؤشرات أكثر تحديدا تعطي تقييما لحجم وتوزيع الاستثمار والتصدير والنتائج العملية المتحققة منهما. فمثلا نحتاج إلى مؤشر لبيان نسبة الاستثمار في القطاعات الاقتصادية الحقيقية، ومؤشر يبين مدى التنوع في الاقتصاد. وكذلك معدل الصادرات من المنتجات الوطنية واثرها في التنوع الاقتصادي. بالإضافة إلى مؤشر خلق فرص عمل في كل قطاع وتنوعها.
فمثلا من ضمن ما استهدفت الرؤية استفادة جميع المواطنين بشكل عادل من منافع النمو الاقتصادي من خلال خلق فرص عمل ذات أجور متوسطة ومرتفعة يستفيد منها جميع شرائح المجتمع، وتأمين المساواة وتكافؤ الفرص في سوق العمل بعد القيام بمراجعة قوانينه ونظام الهجرة، وان يحقق النمو الاقتصادي أسسا لإيجاد فرص عمل متزايدة لتوظيف جميع المواطنين الداخلين إلى سوق العمل، أو الانتقال الى وظائف أفضل، وتوسعة الطبقة الوسطى التي تحرك عجلة الريادة والابتكار.
هذه اهداف واضحة ومعبرة عن متطلبات المجتمع. لذلك، يتطلب الامر ان تضع الرؤية 2050 مؤشرات لتقييم تقدمنا في هذه الاهداف ومتابعتها بشكل مباشر للوقوف على مدى تطبيق القيم والمبادئ الواردة فيها من تكافؤ الفرص والمساواة ومعايير الكفاءة والقدرة. بالإضافة إلى الحاجة إلى تقييم نتائج مراجعة قوانين سوق العمل وكيف اثرت في توظيف البحرينيين وقرارات التوظيف بشكل عام.
من الأمور المهمة أيضا التي وردت في رؤية 2030 توسعة الطبقة الوسطى كأحد مستهدفات الرؤية. كثير من اسس التنمية تعتمد على الطبقة الوسطى، فالريادة والابتكار وتراكم رأس المال البشري والاجتماعي يعتمد على مساهمة هذه الطبقة ونشاطها، فهي المحرك لتقدم المجتمع.
فحبذا لو ان رؤية 2050 تستمر في اعتماد هذا المستهدف مع وضع تعريف لمفاهيمها ومؤشرات لمتابعة التقدم فيها، وتقييم مساهمتها في تقدم المجتمع. وأخيرا وضعت جهات الدولة المختلفة مشاريع وبرامج لتدريب ودعم وتمكين البحرينيين من فرص العمل التي يخلقها الاقتصاد، من ضمن الاستعداد لرؤية 2050 يحتاج الامر إلى تقييم المشاريع والبرامج التي وضعت واعادة النظر فيها لرفع فاعليتها. سوف يعتمد نجاحنا في صوغ رؤية 2050 على مدى جودة التحليل الذي نقوم به وشموليته استعدادا لذلك، وعلى الاستنتاجات التي نخلص اليها والتحديات والفرص التي نعتمدها ونناقشها.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك