من الصعب إنكار التناقض الواضح في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. فعلى الرغم من التصريحات المتكررة التي تبدي فيها الولايات المتحدة، التعاطف مع الفلسطينيين في غزة مع استشهاد أكثر من 32.000 فلسطيني، وتدمير أكثر من نصف مساكن القطاع، ووصول الكارثة الإنسانية إلى حد المجاعة، إلا أنها في الوقت نفسه تبقى حليفة رئيسية لإسرائيل، وتمدّها بكل أشكال الدعم لا سيما العسكري، وبينما قامت مؤخرا بتمرير قرار مجلس الأمن الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار، إلا أن ذلك لا يعكس بالضرورة تحولًا في سياستها الحقيقية تجاه القضية.
وفي فبراير 2024، وجه أكثر من 800 مسؤول نشط بالحكومات الغربية انتقادات لاذعة لسياسات حكوماتهم تجاه غزة، حيث أظهرت رسالتهم المشتركة تخاذلاً واضحاً، من قبل دول، مثل الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وغيرها، في مواجهة المعاناة التي يعيشها سكان القطاع جراء الحرب المستمرة. ورغم التصريحات الرسمية التي تبرز التزام هذه الدول بقيم حقوق الإنسان والقانون الدولي، فقد وفرت الأسلحة المتطورة التي تستخدم في تدمير غزة. وفي حين توقفت بعض الدول عن إرسال الإمدادات العسكرية، إلا أن الولايات المتحدة استمرت في تقديم دعمها العسكري، وتم توثيق استخدام القنابل الأمريكية الصنع في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في القطاع.
ومع الترحيب بعدم استخدام واشنطن حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، ضد القرار رقم 2728، الذي يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، وعدم عرقلته كما فعلت مرات عدة من قبل؛ فإن هذا الموقف لا يعكس تغييرًا فعليًّا في موقفها تجاه الحرب، وكما أوضح جون هدسون، في صحيفة واشنطن بوست، فإن إبقاء جو بايدن ومستشاريه، ملتزمين، بنقل القنابل، والطائرات المقاتلة بقيمة مليارات الدولارات، يُظهر أن السياسة الأمريكية لم تتغير على الرغم من تحول الرأي العام العالمي بشدة ضد استمرار الحرب.
وفي حين علق جيريمي بوين، من شبكة بي بي سي، على تمرير قرار مجلس الأمن -سابق الإشارة إليه- بقوله إن بايدن، قد قرر أخيرًا أن الكلمات القوية مع إسرائيل ليست كافية، وذلك عقب أسابيع من التوتر في العلاقات بسبب رفض الأخيرة وقف تدميرها لغزة، والمنع المتعمد للمساعدات الإنسانية؛ فقد رأى جوليان بورغر، في صحيفة الجارديان، أن الشعور بانتهاج واشنطن نهجا مختلفا تجاه حرب غزة نتيجة تمرير قرار مجلس الأمن، لم يدم سوى أربعة أيام فقط، مع تواتر الأخبار بشأن موافقتها على نقل المزيد من الأسلحة إلى إسرائيل، مع علمها بأنها ستستخدم في قصف غزة؛ وهو ما يؤكد أنها تتحدث بطريقة، وتتصرف بشكل آخر.
وتزود الولايات المتحدة، إسرائيل بـ 3.8 مليارات دولار من المساعدات العسكرية وحدها كل عام. وعلى الرغم من تعليق عديد من الدول الغربية مبيعات الأسلحة لإسرائيل؛ فإن الحقيقة أن الغالبية العظمى من عمليات نقل الأسلحة تأتي من واشنطن، يجعل تأثير هذه الدول في سلوك قوات الاحتلال أقل من تأثير الولايات المتحدة. وتُظهر بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، أنه بين عامي 2019 و2023، جاءت 69% من إمدادات الأسلحة الإسرائيلية من أمريكا، و30% من ألمانيا، واستحوذت إيطاليا -ثالث أكبر مورد- على أقل من 1% من المبيعات.
ووثق المعهد، كيف أنه في نهاية عام 2023، سلمت واشنطن، بشكل سريع آلاف القنابل، والصواريخ الموجهة إلى إسرائيل. وللقيام بذلك، عمدت إلى تجنب أي إشراف من الكونجرس، عبر استخدام أنتوني بلينكن، وزير الخارجية لسلطة الطوارئ، ومن بين هذه التحويلات قذائف دبابات بقيمة 106 ملايين دولار، وذخائر مدفعية بقيمة 147.5 مليون دولار. وفي ذلك الوقت، وصف جوش بول، المسؤول السابق في الخارجية الأمريكية -الذي استقال بسبب سياسة الإدارة الأمريكية- عمليات النقل هذه بأنها مخزية وجبانة، والتي تحكم على المزيد من الأطفال بالموت.
وتشمل الجولة الأخيرة من عمليات النقل التي كشفت عنها صحيفة واشنطن بوست، قنابل زنة 2000 رطل، و500 قنبلة من طراز إم كيه 82، تزن 500 رطل، بالإضافة إلى طائرات مقاتلة متقدمة. وأشار بورغر، إلى أن التردد الوحيد من جانب إدارة بايدن، بشأن الموافقة على دفعة أخرى من الأسلحة الفتاكة، كان يتعلق بـ 1800 قنبلة من طراز إم كيه 84، والتي تمت الموافقة عليها في النهاية على الرغم من أن هذه الذخائر لعبت دورًا مهمًا في تدمير غزة.
ونتيجة لهذا، لاقت سياسة بايدن، ردود فعل قوية، لا سيما من داخل حزبه الديمقراطي. واعترف السيناتور جيف ميركلي، بأن أمريكا متواطئة في هذه المأساة من خلال تزويد قوات الاحتلال بالقنابل والذخائر. وفي جهودهم لمنع المزيد من مبيعات الأسلحة، أثارت مجموعة من كبار المسؤولين، بقيادة المرشح الرئاسي السابق بيرني ساندرز، مسألة قانون المساعدات الخارجية لعام 1961، الذي ينص على أنه لا يتم تقديم أي مساعدة للدول التي تقيد توصيل المساعدات الإنسانية الأمريكية، كما فعلت إسرائيل.
ووفقا لآخر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة جالوب، فإن غالبية الأمريكيين –55%- يعارضون الهجمات العسكرية الإسرائيلية ضد غزة، في حين يوافق 27% فقط على نهج تعامله مع هذه الحرب. وأشار بورغر، إلى مواجهة المسؤولين الحكوميين الأمريكيين أسئلة يومية حول لماذا لا تصبح المساعدات العسكرية، مشروطة بتغيير السلوك الإسرائيلي للحد من عدد القتلى المدنيين، وتوسيع نطاق تقديم المساعدات بشكل كبير.
ولا يقتصر الاستياء من السياسات الأمريكية تجاه تسليح إسرائيل في واشنطن فقط؛ حيث إنه ردًا على اعتراف بايدن، في فبراير 2024، بأن الهجمات العسكرية الإسرائيلية ضد غزة، كانت قد تجاوزت كل الحدود، أوضح كبير منسقي السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أنه إذا كانت الإدارة الأمريكية وحلفاؤها يعتقدون حقًا أن الكثير جدًا من الفلسطينيين الأبرياء استشهدوا، فيجب عليهم منع تزويد إسرائيل بالأسلحة من أجل منع وقوع المزيد من الضحايا.
وكما أوضح هدسون، فإن استمرار عمليات نقل الذخائر الأمريكية الصنع إلى إسرائيل لاستخدامها في غزة، لن تجعل بايدن، ينظر إليها على أنها محظورة في تلك الظروف. وأشار بورغر، إلى أنه ليس هناك ما يشير إلى تحول فعلي في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الحرب، حيث لا تزال ملتزمة بتسليح حليفتها والسماح للحرب بالاستمرار. ويتأكد هذا التقييم من خلال اعتراف المتحدث باسم البيت الأبيض، جون كيربي، بأن إدارة بايدن، لا تزال تدعم إسرائيل، وأنها ستستمر في توفير الأدوات والقدرات وأنظمة الأسلحة لمواصلة الحرب.
وعليه، أوضح بورغر، أن التوقعات بحدوث تغيير في سياسة الإدارة الأمريكية أمر مستبعد إلى حد كبير، لأسباب سياسية. وفي حين تمت الإشارة إلى الإصدار المرتقب لتقييم الخارجية الأمريكية، حول ما إذا كانت إسرائيل انتهكت قوانين الحرب الدولية، والمقرر تقديمه إلى الكونجرس بحلول الثامن من مايو 2024 في إطار مذكرة للأمن القومي تُذكر الدول التي تتلقى أسلحة أمريكية بالالتزام بالقانون الدولي، وعدم عرقلة المساعدات الإنسانية؛ فقد اعترف آرون ميلر، من مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، بأنه سيصاب بالذهول إذا أصدرت إدارة بايدن حكمًا بأن الإسرائيليين لم يلتزموا بالقانون الدولي.
وبينما حث السيناتور الديمقراطي كريس فان هولن، بمجلس الشيوخ، إدارة بايدن، على استخدام نفوذها بفعالية، والحصول على التزامات أساسية من إسرائيل بعدم انتهاك القانون الدولي، حال استخدام الأسلحة الأمريكية، فقد جاءت الزيارة التي قام بها وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت، إلى واشنطن في أواخر مارس الماضي، لتكون مصحوبة بقائمة طويلة من الأسلحة الأمريكية التي أرادت بلاده الحصول عليها بطريقة سريعة. وكما أوضحت يولاند كنيل، من شبكة بي بي سي، فإنه لم يتم فرض أي نفوذ كبير في هذا الشأن. وتعكس هذه الزيارة التي أعقبتها الموافقة على المزيد من الأسلحة حقيقة أن واشنطن غير قادرة على رفض مطالب حليفتها، على الرغم من انتهاكاتها الواضحة والمستمرة للقانون الدولي.
ومع ذلك، فإن الأسباب السياسية الداخلية التي دفعت بايدن، إلى عدم إيقاف الدعم العسكري لإسرائيل، لا يمكن أن تبرر بأي حال قرار مواصلة نقل الأسلحة إلى الأخيرة. وأكد بورغر، أن هذه الأسباب ترجع إلى أنه من المرجح أن يعقد نتنياهو، اتفاقا مع الجمهوريين -في ظل اعتقاده أن بايدن قد خان إسرائيل في ظل مواجهتها للإرهاب- وبالتالي فقدانه دعم الناخبين اليهود في أمريكا قبل الانتخابات الرئاسية القادمة. وأوضح أسامة أندرابي، من مؤسسة ديمقراطيو العدالة، أنه في مرحلة معينة، يتعين على إدارة بايدن والحزب الديمقراطي أن يقررا هل هم على استعداد لجعلنا متواطئين في ذلك الدعم؟. وشبه راي أبيلا، سياسات إدارة بايدن بوضع ضمادة على جرح صغير في إصبع شخص ما يتألم، بينما يستمر في الوقت نفسه في طعنه في صدره.
على العموم، فإنه على الرغم من تحول الرأي العام الغربي بشكل حاسم ضد استمرار الحرب الإسرائيلية، بما في ذلك في الولايات المتحدة؛ فإن حكومات هذه الدول لا تزال ترفض إلى حد كبير اتخاذ أية إجراءات ملموسة، أو استخدام نفوذها ضد إسرائيل. ويبقى واضحا أن حكومة بنيامين نتنياهو، تجاهلت عمدا قرارات محكمة العدل الدولية، ومجلس الأمن، التابع للأمم المتحدة بإنهاء حربها على غزة، وهو ما يعني أنه ليس غريبا أن ترفض بنفس السهولة أية كلمات لاذعة أو انتقادات من قبل كبار المسؤولين الغربيين. وأوضحت علياء الإبراهيمي، من المجلس الأطلسي، أن الشجاعة السياسية ضرورية للرد على سلوك إسرائيل، وعلى استمرار البيت الأبيض في نقل الأسلحة إليها، مؤكدة أن كلمات وأفعال الإدارة الأمريكية ببساطة لا تتوافق مع بعضها البعض.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك