إن أولئك الذين ينتقدون المقاومة الفلسطينية، سواء كانت مسلحة أو غير مسلحة، ليس لديهم إلا النزر القليل من الفهم للتداعيات النفسية للمقاومة، مثل الشعور بالتمكين الجماعي والشرف والأمل.
لكن المقاومة ليست مجرد بندقية، أو قاذفة صواريخ التي تعد في حد ذاتها مجرد مظهر واحد من مظاهر المقاومة، وإذا لم تكن مدعومة بدعم شعبي قوي، فمن غير المرجح أن يكون لها تأثير كبير.
وفي الواقع، يجب أن تكون جميع أشكال المقاومة المستدامة متجذرة في الثقافة، مما يساعدها على توليد معان جديدة بمرور الوقت.
وفي حالة النضال الفلسطيني، فإن مفهوم المقاومة متعدد الأوجه ومتأصل بقوة في الروح الجماعية لأجيال من الفلسطينيين، مما يمكن هذا من تجاوز الحدود الأيديولوجية والسياسية للفصائل والجماعات السياسية.
ورغم أن رموز هذه المقاومة – على سبيل المثال، الكوفية والعلم والخريطة والمفتاح – هي جزء من هذا الجيل من المعاني، إلا أنها مجرد دلالات على أفكار ومعتقدات وقيم عميقة حقًا.
ومهما حاولت إسرائيل تشويه سمعة هذه الرموز أو حظرها أو إعادة التصدي لها أو محاربتها بشتى الأساليب والوسائل أملا في محوها واجتثاثها من الذاكرة، فستفشل في ذلك وستظل تفشل مهما حاولت.
في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، على سبيل المثال، ابتكر مصممو الأزياء الإسرائيليون ما كان من المفترض أن يكون الكوفية الإسرائيلية، وقد بدت الأوشحة الإسرائيلية، من بعيد، مشابهة للأوشحة التقليدية الفلسطينية، إلا أن معظمها كان أزرق اللون.
وبإلقاء نظرة من قرب، وبالتمعن في الأمر، يمكن للمرء أن يفهم أن النسخة الإسرائيلية المتماثلة من الرمز الوطني الفلسطيني هي في كثير من الأحيان تلاعب ذكي بنجمة داود.
ويمكن تصنيف ذلك بسهولة تحت شعار الاستيلاء الثقافي، لكن في الواقع، الأمر أكثر تعقيدًا بكثير.
لم يخترع الفلسطينيون الكوفية، أو «الحطة» hatta، وهي واحدة من أكثر أغطية الرقبة أو حتى الرأس شيوعًا في جميع أنحاء الشرق الأوسط، لكن ما فعله الإسرائيليون هو أنهم استحوذوا على الكوفية، وأعطوها معاني أعمق -المعارضة والثورة والوحدة. لقد كان بروز الكوفية مدفوعاً جزئياً بالأفعال والقيود التي فرضتها إسرائيل.
وبعد احتلال ما تبقى من فلسطين التاريخية، وهي القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة، قامت إسرائيل على الفور بحظر رفع العلم الفلسطيني.
وكان هذا الحظر جزءا من حملة تقييدية أكبر بكثير تهدف إلى منع الفلسطينيين من التعبير عن تطلعاتهم السياسية، حتى لو كانت رمزية.
وما لم تستطع الإدارة العسكرية الإسرائيلية منعه هو استخدام الكوفية، التي كانت من أساسيات كل بيت فلسطيني. وفي وقت لاحق، سرعان ما أصبحت الكوفية الرمز الجديد للأمة الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية، وفي بعض الأحيان حلت محل العلم المحظور الآن.
يعود تاريخ الكوفية الفلسطينية الأصيلة إلى سنوات عديدة قبل النكبة، أي التطهير العرقي الذي تعرضت له فلسطين التاريخية على يد المليشيات الصهيونية في عامي 1947 و1948.
في الواقع، إذا أردنا دراسة أي ثورة في تاريخ فلسطين الحديث، بدءًا من الإضراب والانتفاضة الفلسطينية في عامي 1936 و1939، مرورًا بالمقاومة الفلسطينية خلال النكبة، وحتى حركة الفدائيين في أوائل الخمسينيات، وحتى الوقت الحاضر، فإنه يتبين لنا أن الكوفية قد برزت بشكل لافت باعتبارها الرمز الفلسطيني الأكثر أهمية.
ومع ذلك، فإن الصعود الحقيقي للكوفية كرمز للتضامن العالمي مع فلسطين والفلسطينيين لم يصبح ظاهرة دولية حقيقية حتى الانتفاضة الأولى في عام 1987. في ذلك الوقت، شاهد العالم بكل إعجاب جيلاً متمكناً مسلحاً فقط بالحجارة في مواجهة الجيش الإسرائيلي المدجج بالسلاح.
نوعان من الرموز
ومن الجدير بالذكر أننا عندما نتحدث عن «رمزية» الرموز الثقافية الفلسطينية، ولمواجهة الرموز الثقافية الإسرائيلية، فإننا نشير إلى نوعين من الرموز: نوع محمل بتمثيلات غير ملموسة، وإن كانت جوهرية -على سبيل المثال، البطيخ -وأخرى ذات تمثيلات ملموسة وتبعية - على سبيل المثال المسجد الأقصى.
أما المسجد الأقصى فهو رمز حي وبارز في المخيال للروحانية والتاريخ والقومية الفلسطينية، وأيضا بناء مادي فعلي يقع في مدينة فلسطينية المحتلة، أي القدس، والقدس الشرقية على وجه التحديد.
ولسنوات عديدة كانت إسرائيل تنظر إلى المسجد الأقصى بانزعاج شديد، فترد على الادعاء الفلسطيني بالزعم بأن تحت المسجد الأقصى تقع أنقاض الهيكل اليهودي، الذي تشكل قيامته أهمية بالغة بالنسبة إلى الروحانية اليهودية.
ولذلك، لا يمكن اعتبار المسجد الأقصى مجرد رمز، يخدم دور التمثيل السياسي. بل على العكس من ذلك، فقد نما دوره وازدادت رمزيته حتى بات يحمل معنى أعمق بكثير في النضال الفلسطيني.
ولن يكون من قبيل المبالغة القول بأن بقاء المسجد الأقصى يرتبط الآن ارتباطًا وفقًا لعالم اللغة السويسري الشهير فرناند دي سوسور، فإن كل علامة أو رمز يتكون من «دال»، أي الشكل الذي تتخذه العلامة، و«المدلول»، وهو المفهوم الذي تمثله.
على سبيل المثال، على الرغم من أن الخريطة يتم تعريفها بشكل شائع على أنها التمثيل الجغرافي لمنطقة أو إقليم يظهر فقط السمات المادية وخصائص معينة للمكان، إلا أنها يمكن أن تأخذ «دلالة» مختلفة عندما تكون المنطقة أو الأرض المعنية منطقة محتلة كما هي فلسطين.
ولذلك أصبح التمثيل المادي لحدود فلسطين مع مرور الوقت رمزاً قوياً يعكس الظلم الذي لحق بالشعب الفلسطيني عبر التاريخ.
وتم تطبيق نفس العملية على المفاتيح الخاصة بهؤلاء اللاجئين أنفسهم، ضحايا التطهير العرقي والعنصري الإسرائيلي لفلسطين. والفرق الوحيد هو أنه بينما كانت القرى موجودة، ثم توقفت عن الوجود، فإن المفتاح كان موجودًا ككائن مادي، قبل النكبة وبعدها.
ربما يكون المنزل والباب قد اختفيا، ولكن هناك مفتاحا ماديا لا يزال، رمزيًا، يحيل إلى ثنائية الماضي من ناحية، ومن ناحية أخرى، على أمل استعادة الباب والمنزل أيضًا في يوم من الأيام.
وفي ضوء ذلك، لم تعد قطعة الأرض الممتدة في المساحة الجغرافية ما بين نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط مجرد رمال وماء وعشب وحجارة. فقد أصبحت تمثل شيئًا آخر تمامًا.
ولا بد من الإشارة إلى أن شعار «من النهر إلى البحر» لا يشير إلى طبوغرافيا فعلية ولا إلى السياسة. فهو شعار يعتمد على إدراك أن حدثًا تاريخيًا مدمرًا قد تسبب في قدر كبير من الظلم والألم والأذى لفلسطين التاريخية.
إن مواجهة هذا الظلم لا يمكن أن تكون مجزأة، بل يجب أن تتم من خلال عملية شاملة ومتكاملة تسمح للأرض، والأهم من ذلك، للسكان الأصليين لتلك الأرض، باستعادة كرامتهم وحقوقهم وحريتهم.
البطيخ والمثلثات الحمراء
ومما يجدر الإشارة إليه أن بعض الرموز، وعلى الرغم من استخدامها حتى قبل بداية عملية طوفان الأقصى، أصبحت أكثر شعبية بعد 7 أكتوبر. فعلى سبيل المثال، تم استخدام ثمرة البطيخ، مرارا وتكرارا، طوال تاريخ فلسطين الحديث، وتحديدا عندما حظرت إسرائيل ملكية البطيخ أو رفع العلم الفلسطيني.
ولا شك أن هذه الفاكهة نفسها، وبالإضافة إلى كونها رمزًا لثراء أرض فلسطين، تتميز أيضًا بنفس ألوان العلم: الأسود والأحمر والأبيض والأخضر.
أما الرمز الآخر ذو الصلة فهو المثلث الأحمر. بدأ مثلث أحمر صغير يظهر كأداة وظيفية في مقاطع الفيديو التي تنتجها كتائب القسام، لمجرد الإشارة إلى هدف عسكري إسرائيلي محدد قبل أن تصيبه قذيفة ياسين 105 أو قذيفة آر بي جي أو أي قذيفة أخرى.
لكن مع مرور الوقت، بدأ المثلث الأحمر يكتسب معنى جديداً، بغض النظر عما إذا كان مقصوداً من مصممي فيديوهات كتائب القسام أم لا.
كان المثلث الأحمر مرتبطا كرمز عند البعض بالعلم الفلسطيني، وتحديداً بالمثلث الأحمر الموجود على اليسار، والموجود فوق اللون الأبيض، بين الأسود والأخضر. وفي الحقيقة فإن أصول المثلث الأحمر الصغير لا تهم. وكما هو الحال مع الرموز الفلسطينية الأخرى، فهو أيضًا يتمتع بقوة تمكنه من تجسيد واختزال معانٍ جديدة بمرور الوقت.
الثقافة والثقافة المضادة
على غرار «الكوفية الإسرائيلية»، حاولت إسرائيل مواجهة الثقافة الفلسطينية. لقد فعلوا ذلك في الغالب من خلال وضع قوانين تمنع الفلسطينيين من التواصل أو إبراز رموزهم الثقافية.
وكان التكتيك الآخر الذي استخدمته إسرائيل يتمثل في المطالبة بالرموز الفلسطينية وكأنها رموزها الخاصة، وهذا أمر شائع جدًا في الملابس والطعام والموسيقى. عندما استضافت إسرائيل مسابقة ملكة جمال الكون عام 2021، تم نقل المتسابقات إلى مدينة «رهط» البدوية العربية (في لواء الجنوب وفق التقسيم الإداري الذي فرضته دولة الاحتلال في فلسطين).
ومن الواضح أنهم غير مدركين أن الثقافة البدوية، بملابسها المطرزة وطعامها وموسيقاها ومظاهرها الثقافية العديدة، هي ثقافة عربية فلسطينية فريدة من نوعها، فقد لجأت مسابقات ملكات الجمال إلى وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن حماسهن لكونهن جزءًا من «يوم في حياة بدوي» مع إطلاق هاشتاج #visit_israel.
قد تسلط مثل هذه الأحداث الضوء على درجة الخداع من جانب إسرائيل، ولكنها تكشف أيضًا إلى حد كبير شعور إسرائيل بالدونية الثقافية.
إذا تمعنا مليا في الرموز الإسرائيلية، سواء كان العلم الذي يحمل نجمة داود أو أسد يهوذا أو أغاني الحرب الوطنية، مثل حرب دربو، يبدو أنه مستخرج إلى حد كبير من مراجع الكتاب المقدس، والبطولات الدينية التي كانت موجودة حتى قبل نشأة إسرائيل نفسها.
ورغم أن الرموز الفلسطينية تعكس رغبة الفلسطينيين في العودة إلى أرض أجدادهم، واستعادة الحقوق والعدالة التي حرموا منها فترة طويلة، فإن الرموز الإسرائيلية تبدو مجرد ادعاءات ــ قديمة ودينية ولا يمكن التحقق منها.
ولا شك أن هذا يدل على أنه على الرغم مما يقرب من قرن من الاستعمار الصهيوني، و75 عامًا من الوجود الرسمي كدولة، فقد فشلت إسرائيل في الارتباط بأرض فلسطين، وبثقافات الشرق الأوسط، ناهيك عن نحت مكان لنفسها في تاريخ المنطقة الذي لم يُكتب بعد، وهو التاريخ الذي سيكتبه بالتأكيد السكان الأصليون لتلك الأرض، أي الشعب الفلسطيني.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك