الولايات المتحدة الأمريكية هي من دعم تأسيس حلف شمال الأطلسي «الناتو» عام 1949 كآلية أمنية لتحقيق توازن القوى في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية بالتوازي مع الآلية الاقتصادية وهي مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا بعد تلك الحرب والذي وضعه جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي آنذاك، وعلى الرغم من أنها أحد الأعضاء المؤسسين للحلف ولا تزال تسهم بالنصيب الأكبر في ميزانيته العسكرية فإن العلاقة بين الولايات المتحدة والحلف والتي يفترض أنها تنطلق من مفهوم التحالف العسكري بمضامينه تشهد توتراً من آن لآخر، فخلال حملته الانتخابية عام 2016 هدد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالانسحاب من الناتو حال فوزه في الانتخابات الرئاسية ولكنه في أول خطاب له أكد أن الولايات المتحدة أقوى بتحالفاتها، حيث كان وجه اعتراض ترامب هو أن الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو اعتادت على الحماية الأمريكية «بشكل مجاني» وأنها لابد وأن تخصص نسبة 2 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي للنفقات العسكرية في الناتو وهو ما حدث بالفعل من جانب 4 دول في عام 2018 بعد وصول ترامب إلى السلطة وتهديداته آنذاك، إلا أن دونالد ترامب الذي يخوض الآن معركة حامية الوطيس مع منافسة جو بايدن للفوز بالرئاسة الأمريكية عاد مجدداً للتلويح بالورقة ذاتها في وجه شركائه الأوروبيين في الحلف، فخلال تجمع انتخابي لترامب في ولاية ساوث كارولينا قال ترامب «إنه لن يحمي الدول الأعضاء في الناتو من أي هجوم مستقبلي إذا تأخرت مساهماتها في الحلف» وذلك رداً على سؤال في هذا الشأن، ومع الأخذ بالاعتبار أنه يجب أن نفرق في تحليل الخطاب السياسي بين الأجندة الانتخابية والسياسة الواقعية فإن التاريخ يعكس أيضاً حالات من التوتر بين الجانبين، ففي أول قمة لحلف الناتو بعد تعرض الولايات المتحدة لاعتداءات 11 سبتمبر عام 2001 قال دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي آنذاك في تصريح غاضب بسبب ما رأته الولايات المتحدة تقاعساً للحلف عن دعم الولايات المتحدة لمواجهة تلك الاعتداءات « الحلف إما أن يتحول وإما أن يموت»، بل إن الغضب الأمريكي بلغ مداه من خلال رسالة نقلها بول وولفويتز نائب وزير الدفاع الأمريكي آنذاك خلال اجتماع للحلف في أكتوبر 2001 كان مضمونها لدول الحلف «لا تتصلوا بنا بل نحن الذين سنتصل بكم»، وكان طلب الولايات المتحدة محدداً فقد طلبت من الناتو القيام بثمانية إجراءات تضمن أمن الولايات المتحدة والحلف مستقبلاً كان من بينها نشر قوات بحرية للحلف في شرق المتوسط «عملية المسعى النشط» وهو ما قام به الحلف بالفعل.
ومع أهمية ما سبق فإن التساؤل الأهم ما دلالات إمكانية حدوث تغير في الرؤية الأمريكية للحلف سواء بالنسبة إلى الحرب في أوكرانيا أو شراكات الحلف وخاصة الشرق أوسطية «الحوار المتوسطي 1994 ومبادرة إستانبول 2004»؟ وهو تساؤل ذو دلالة مهمة، وخاصة أن ترامب قال صراحة «إنه سوف يعيد تقييم المساعدات لأوكرانيا، في حالة إعادة انتخابه للبيت الأبيض»، وبما أن التحدي يخلق الاستجابة، وفي ظل مواجهة أوكرانيا تحدي عرقلة الكونجرس تقديم مساعدات بأكثر من 60 مليار دولار ووجود دعوات تطالب أوكرانيا بالتفاوض مع روسيا، فإن وزراء خارجية الناتو وخلال اجتماعهم في 3 أبريل 2024 أعلنوا مناقشة فكرة تأسيس صندوق بقيمة 108 مليارات دولار لتقديم الدعم العسكري اللازم لأوكرانيا على مدى خمس سنوات كخيار بديل إذا ما تخلى ترامب عن دعم أوكرانيا حال وصوله إلى السلطة مجدداً، بالإضافة إلى خطة لدعم أوكرانيا في الصمود خلال مواجهتها مع روسيا.
ومع أهمية هذا الاقتراح ولكنه برأيي يواجه ثلاث صعوبات أولها: إنه ليس لدى الحلف الميزانية الكافية لذلك ، فكما أشرت فإن الخلاف الأساسي بين الولايات المتحدة وشركائها في الناتو هو في مدى التزامهم بتخصيص 2% للإنفاق العسكري للحلف، فما بالنا بصندوق دفاعي يخصص لدعم دولة ليست عضوا في الناتو حتى الآن؟، وثانيها: تباين وجهات نظر الدول الأعضاء حيال ذلك المقترح، فاللوهلة الأولى ظهرت اختلافات في الرؤى بشكل محتدم، وثالثها: مدى تأثير ذلك المقترح على مساعي أوروبا لتأسيس هوية أمنية أوروبية مستقلة، وهي المساعي التي وجدت سبيلها في مقترحات عديدة، صحيح أنها لم تر النور حتى الآن ولكنها لم تنته فمازال حلم الجيش الأوروبي الموحد يراود بعض الدول الأوروبية التي سعت أيضاً للوجود عسكرياً في مناطق الصراعات خارج أراضيها ولو بشكل رمزي من بينها إرسال القوة البحرية «أسبيدس» في 19 فبراير 2024 لمواجهة تهديدات الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب.
ومن ناحية ثانية وعلى صعيد تأثير تخلي الولايات المتحدة عن دعم الناتو- وإن كان في تقديري أمراً مستبعداً- على شراكات الحلف الشرق أوسطية فلاشك أنها سوف تتأثر بشكل بالغ، صحيح أن هناك شراكات أمنية ثنائية بين عديد من دول المنطقة والولايات المتحدة ولكن ربما في كثير من الحالات لم تتعامل دول المنطقة على الفصل بين الحلف والولايات المتحدة ليس فقط لكونها الدولة التي تقود الحلف ولكن الخبرة العملية أكدت أن الحلف لا يمكنه العمل دون الولايات المتحدة وكان ذلك واضحاً خلال تدخل حلف الناتو في ليبيا في مارس عام 2011 إذ تؤكد كل المصادر أنه لولا الدعم العسكري الأمريكي القوي خلال الأيام الأولى لما كان للحلف أن يتدخل عسكرياً، بما يعنيه ذلك من أن تخلي الولايات المتحدة عن دعم الناتو لن يكون له تأثير على الحلف كمنظمة دفاعية لا يزال ينظر إليها بأنها الأقوى في العالم بعد مرور 75 عاماً على تأسيسه ولكن على التأثير الاستراتيجي لذلك وهو أنه يجب على دول منطقة الشرق الأوسط الانخراط في شراكات أخرى.
ولست بحاجة للتأكيد مجدداً على ما أشرت إليه في مقالاتي السابقة عن الحلف من أن انهيار الاتحاد السوفيتي كان نتيجة انهيار الأيديولوجية بينما الناتو الذي تأسس على مصالح مشتركة لا تزال تمثل الرباط الوثيق بين دول تجمعها مصالح استراتيجية وترى أنها تواجه تهديدات مشتركة سواء تم التعبير عنها من خلال الناتو أو الاتحاد الأوروبي فإن مصالحهما في النهاية واحدة.
وفي ظل استراتيجيات الأمن القومي الأمريكية التي تتضمن إعادة التموضع في مناطق على حساب أخرى، وفي ظل التحدي الروسي ليس فقط في أوكرانيا ولكن في مناطق أخرى فإن الولايات المتحدة والناتو بحاجة لمراجعة علاقتهما وربما تكون قمة دول الحلف في واشنطن في يوليو 2024 فرصة سانحة لذلك.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك