في أعقاب عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر2023؛ كتب «لورانس فريدمان»، من «كلية كينجز لندن»، إنه «في أوقات الصراع يتضح أن فن الاستراتيجية، يكمن في مواءمة الأهداف السياسية، مع الوسائل العسكرية»، وأنه «مهما بلغت كفاءة الأخيرة وبراعة تكتيكاتها، فإذا لم تحقق أهدافها المرجوة، فإنه لابد من «إيجاد وسائل أخرى»، مؤكدا أن الفشل في ذلك، قد يؤدي إلى الإحباط، أو حتى النتائج الأسوأ. وفي الأشهر الستة التي شهدت قصفًا على غزة وغزوًا على الأرض، فإن الوضع القاتم الحالي، هو الذي قادت القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، نفسها نحوه.
وفي مارس 2024، كتب «أندرو إكسوم» – نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي لسياسة الشرق الأوسط بين عامي 2015 و2017 – في مجلة «ذي أتلانتيك»، أن إسرائيل لا تزال «تفتقد استراتيجية عسكرية للقضاء على حماس»، أو «استراتيجية سياسية للتعايش مع قطاع غزة». وهي مشكلة رصدها المراقبون الغربيون في وقت مبكر؛ في ضوء أن الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين كانت بمثابة «انتقام عنيف»، من الإذلال الذي تعرضوا له عندما فوجئوا بالهجوم غير المتوقع، بحرا، وبرا، وجوا، وكذب ادعاءاتهم حول قوة استخباراتهم.
وفي حين يهدد رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو»، بشن هجوم عسكري شامل آخر على مدينة رفح، التي يقطنها حاليا نحو 1,5 مليون فلسطيني نازح، جراء ما لحق من دمار ببقية قطاع غزة؛ فلا يُمكن إنكار الفشل المشترك للاستراتيجيات السياسية والعسكرية الإسرائيلية.
وفي بداية الاجتياح البري للقطاع، حذر خبراء الأمن الغربيون، مثل «جون ألترمان»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، من تداعيات الحرب، فمع تفوق أسلحة الجيش الإسرائيلي، إلا أنه «قد يخسر معركته ضد حماس». وبعد مرور 6 أشهر تقريبًا على هذا التحذير، فشلت قوات الاحتلال بالفعل في القضاء على قدرات حماس العسكرية -كما تعهد قادتها – بل إن المراقبين الغربيين أكدوا عدم إمكانية تصفية الحركة سياسيا عبر القوة؛ وهو الأمر الذي بات شائعا ومقبولا الآن من جانب وكالات الاستخبارات الإسرائيلية، وعلى المستوى السياسي.
ومع تصاعد التوتر في الشرق الأوسط نتيجة للحروب الدائرة في غزة ولبنان، أثار «إكسوم»، تساؤلًا حول ما إذا كان الهجوم الإسرائيلي، والاحتلال العسكري لغزة، قد جعلها «أكثر أمنًا»؟ وترتبط الإخفاقات العسكرية لإسرائيل داخل غزة، «ارتباطا وثيقا»، بإخفاقاتها السياسية الأوسع. ورأى «دانييل ليفي»، رئيس «مشروع الولايات المتحدة/الشرق الأوسط البحثي»، أن قوات الاحتلال «تدفقت على غزة بخطة معركة، وليس بخطة حرب واضحة لما بعد الغزو». وحتى في الحالة الأولى، لا نستطيع أن نقول إنها نجحت في هزيمة حماس عسكريا. وعلق «بول روجرز»، من «جامعة برادفورد»، بأن إسرائيل «تخسر الحرب ضد حماس»، بسبب فشلها في «عقيدة القوة الغاشمة» التي تتبعها، وذلك كون ما تتبناه الحركة من أفكار، ليس بالمقدور هزيمته بالقوة العسكرية».
من جانبه، رأى «آرون ميلر»، من «مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي»، و«ستيفن سايمون»، من «جامعة واشنطن»، عدم توافر دليل يشير إلى تضاؤل «قدرة حماس في التأثير في السياسة الفلسطينية داخل غزة وخارجها، بشكل أساسي». ووفقاً لـ«دينيس روس»، من «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، فإن هذا هو الاستنتاج الذي أقرت به وكالات الاستخبارات الإسرائيلية الآن أيضا، على الرغم من استمرار القيادة السياسية بالبلاد في إنكار هذا الواقع».
وتحيلنا هذه التقييمات للتحذيرات المبكرة التي أطلقها «ألترمان»، وأن إسرائيل «قد تخسر» في غزة بالنظر إلى أن حماس لا تحتاج إلى الاعتماد على «القوة فقط لهزيمة إسرائيل»، لكنها معنية بإبعادها عن شركائها الدوليين»، وتحويلها «إلى دولة منبوذة». وأشار «إكسوم»، إلى ما يواجهه الجيش الإسرائيلي «من صعوبة في تصميم وتنفيذ مثل هذه الحملة»، حيث إن «القتال في المناطق الكثيفة سكانيًا صعب للغاية حتى بالنسبة إلى الوحدات الأفضل تدريباً».
وبالإضافة إلى فشل إسرائيل في قبول فكرة أن حماس أصبحت تجسيدا للنموذج السياسي، ومقاومة الاحتلال للأراضي الفلسطينية؛ أوضح «إكسوم»، أن تصريح قوات الاحتلال «أنها لا تُولي أولوية للحفاظ على حياة المدنيين»، لابد أن يكون له «تداعيات أخلاقية»، تقوض أمنها. وكامتداد لعقود من العداء والقمع ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، تعمدت قصف المناطق المدنية ذات الكثافة السكانية العالية، وفرض قيود شديدة على تدفق المساعدات التي تشتد الحاجة إليها، إلى حد إعلان كل من «برنامج الغذاء العالمي»، و«منظمة الصحة العالمية»، «مجاعة من صنع الإنسان»، تؤثر في نصف السكان على الأقل.
وفي تقييمه، فإن تاريخها بالأراضي الفلسطينية كقوة احتلال، قد «أدى إلى تزايد جبروتها وممارستها القوة المميتة بشكل لافت للنظر ضد المدنيين، وتدل مقاطع الفيديو المتداولة عبر وسائل الإعلام العالمية للجنود الإسرائيليين وهم يضحكون ويمزحون وسط الدمار الشامل لغزة، على أنهم تركوها «معزولة دوليا أكثر من أي وقت مضى».
ومع توثيق «روس»، لكيفية «تسبب الحرب في خلق صدمة عميقة للفلسطينيين»، وتسليط «إكسوم»، الضوء على أن تدمير سبل عيشهم، «سيؤثر بشكل مباشر وسلبي في أمن إسرائيل في المستقبل»؛ رأى «ميلر»، و«سايمون»، أن «ازدياد مقاومة حماس لا مفر منها»، في ضوء سياسات الحكومة الإسرائيلية الحالية، وسلوك جنود الاحتلال داخل قطاع غزة. ومن ثم،ّ فإن إصرار «نتنياهو»، على شن هجوم عسكري ضد المدنيين الفلسطينيين من شأنه أن يؤدي إلى استمرار دائرة العنف في الشرق الأوسط، والتي استمرت أكثر من خمسة وسبعين عامًا. وكما أوضح «إكسوم»، فإن الاستيلاءات الإسرائيلية التاريخية على الأراضي الفلسطينية منذ عام 1948، وحتى عام 1967 على وجه الخصوص، وحملاتها الاستيطانية جعلت «مسألة الفصل بشكل كامل أمرًا شبه مستحيل».
ونتيجة لحقيقة أن نهج «نتنياهو»، وحلفائه السياسيين نحو الحرب في غزة، لن يجعل إسرائيل أكثر أمنا، كتب «روس»، في مجلة «فورين أفيرز»، إن إسرائيل «تحتاج إلى استراتيجية جديدة»، مفادها أن «تنفيذ النصر الكامل أمر غير ممكن». وكجزء من هذه الاستراتيجية، يتعين على قادتها «إدراك أنهم لن يتمكنوا أبدًا من استئصال حماس أو القضاء عليها» – من خلال قصف غزة وقتل المدنيين الفلسطينيين – وأنهم يجب أن يكونوا منفتحين على «التعاون للدفع قدما بنهج دولي قوي لحل المشكلة من جذورها وإعادة الإعمار».
وفيما يتعلق بضرورة تغيير استراتيجية إسرائيل لتأمين نفسها في المستقبل، يرى «إكسوم» أن هذا أمر ضروري ويحظى بدعم الأكاديميين الغربيين وخبراء السياسة الخارجية. ومع ذلك، فإن السياسيين المتشددين داخل إسرائيل لا يزالون غير مقتنعين بذلك، واصفا الوضع الداخلي في إسرائيل، بأنه «محموم» في الوقت الحالي، وحتى إذا تمت «الإطاحة بـنتنياهو»، فليس من المرجح أن يتم إضعاف شوكة القوميين اليمينيين المتطرفين الذين أبقوه في السلطة. ولهذا السبب، أشار «ميلر»، و«سايمون»، إلى أنه «رغم أن أكثر من 90% من اليهود الإسرائيليين يعتقدون أن الحكومة تستخدم القدر المناسب من القوة ضد حماس»، فإنهم يرون أيضا أنه «يجب عليها استخدام المزيد»، وأنه حتى مع استمرار المحللين في التشكيك في مستقبله السياسي، فإن نتنياهو هو من سيبقى في السلطة، وبالتالي سيواصل الحرب بلا هوادة.
علاوة على ذلك، فإن فشل إسرائيل في الحفاظ على حالة الاستقرار الإقليمي، يثير التساؤل حول السبب وراء صمت حلفائها الغربيين – بما في ذلك الولايات المتحدة – وعدم تدخلهم بشكل فعّال لإنهاء الحرب. وأوضح «إكسوم»، أن المسئولين الأمريكيين غاضبون من تجاهل إسرائيل لحياة المدنيين الفلسطينيين، وأنهم وُضِعوا في «موقف محرج للغاية»، بعد أن عرقلت توصيل المساعدات إلى غزة، فاضطروا إلى توصيلها عبر البحر. ورغم ذلك، ترفض «إدارة بايدن»، بشكل متكرر الرد على غضب الأمريكيين والإعراب علنا عن إدانة الانتهاكات الإسرائيلية في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة.
وأشار «ليفي»، و«كارون»، إلى أن «إدارة بايدن»، التي تدعم حرب إسرائيل» لديها قناعة مع حليفتها، مفادها أن «العنف النابع من مجتمع مضطهد يمكن التغلب عليه بواسطة القوة الساحقة». وعلى الرغم من «جونا بلانك»، من مؤسسة «راند»، يرى أن «البيت الأبيض»، في وضع يسمح له الآن باتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه «نتنياهو»، من خلال تقليص الدعم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وقيود الدعم العسكري والاقتصادي لإسرائيل، والاعتراف بدولة فلسطينية؛ إلا أن «بايدن»، لم يُظهر بعد استعداده لتحدي إسرائيل بشكل جدي».
وبالتالي، يعد تعنت إسرائيل تجاه القانون الدولي، وحقوق الإنسان، إشارة إلى أن سياساتها العسكرية والسياسية قد تستمر، على الرغم من الاعتراف بعيوبها ومخاطرها من قبل صناع السياسات والمراقبين. وأشار منسق الإغاثة في الأمم المتحدة، «مارتن غريفيث»، إلى أن المجتمع الدولي يجب أن يشعر بالخجل جراء فشله في منع المجاعة في غزة، ومنع إسرائيل من تدمير واحتلال المزيد من الأراضي الفلسطينية عسكريا.
على العموم، من خلال انتقادات «ليفي»، و«كارون»، لطريقة دعم «البيت الأبيض»، لآلة الحرب الإسرائيلية، حتى بعد التحذير من عدم وجود استراتيجية سياسية واضحة لإسرائيل في حربها على غزة؛ فإن هذا الدعم قد يستمر خلال عام 2024. وفيما يتعلق بالداخل الإسرائيلي، يعتقد «إكسوم»، أن القيادة السياسية قد تحتاج سنوات أو حتى عقودا لتظهر الشجاعة في مواجهة تعنت اليمين الذي عزز قبضته على السلطة. وفي ظل رفض القوى الغربية اتخاذ إجراءات فعالة لمحاسبتها، والتدخل لضمان استقرار المنطقة، فإن ذلك لا يعني فقط مستقبلًا مظلمًا للفلسطينيين في غزة، بل يعني أيضًا أن الإسرائيليين لن يحققوا الأمن الذي وعد به «نتنياهو»، وغيره من القادة اليمينيين المتطرفين من خلال حملة التدمير المتعمدة للقطاع.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك