مع استمرار جرائم الحرب التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة ليل نهار، والدمار الشامل الذي أحدثته في قطاع غزة منذ أكتوبر2023، والذي أدى إلى استشهاد أكثر من 32 ألف فلسطيني؛ معظمهم من النساء والأطفال، وتدمير أكثر من نصف المباني، والكارثة الإنسانية في القطاع؛ وصف وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية وتنسيق الإغاثة «مارتن غريفيث»، هذا الوضع بأنه «فشل أخلاقي»، «يجب أن نشعر بالعار جميعا حياله». ومع تجاهل «إدارة بايدن»، نداءات مئات الآلاف من المتظاهرين في المدن الأمريكية لوقف الحرب وتقديم المساعدات العاجلة للمدنيين؛ فإن الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة في نوفمبر 2024، تثير احتمال دخول رئيس آخر إلى «البيت الأبيض»، عبر سياسات كان خلالها الداعم الدولي الأقوى والأكثر حماسا لإسرائيل.
وعلى الرغم من ذلك، فإن المنافس الرئيسي لـ«بايدن»، من الحزب الجمهوري، سيكون الرئيس السابق «دونالد ترامب»، والذي لطالما تفاخر بـ«نضاله من أجل إسرائيل بشكل لم يسبق له مثيل من قبل أي رئيس أمريكي آخر»، خلال فترة رئاسته بين عامي 2017 و2021. ومع تقدمه على «بايدن»، في كثير من استطلاعات الرأي، بات من المحتمل عودته إلى السلطة بشكل يجب الاعتراف به والاستعداد له.
وحينما يتعلق الأمر بسياسة «واشنطن»، المستقبلية المحتملة تجاه الحرب في غزة، ومصير الشعب الفلسطيني، أوضحت التعليقات الأخيرة التي أدلى بها صهر «ترامب»، ومستشاره السابق، «جاريد كوشنر»، ملامح الموقف الأمريكي المؤيد بقوة لإسرائيل، والذي يعد بشكل واضح «تخليا تاما»، عن حماية حقوق الإنسان، والقانون الدولي.
ومع عمله في مجال العقارات، وعدم وجود خبرة حكومية أو سياسية سابقة لديه، فقد شغل «كوشنر»، خلال رئاسة «ترامب»، منصب مستشاره رفيع المستوى؛ الأمر الذي كان له تأثير كبير على سياسة الولايات المتحدة حيال الشرق الأوسط؛ شمل ذلك الإجراءات والتدابير الأمريكية المتعلقة بالإسرائيليين والفلسطينيين. ففي ظل توجهاته واستشاراته، قام الرئيس السابق بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وطرح ما سُمى بـ«صفقة القرن»، التي انتقدها المراقبون، باعتبارها خطة لتعزيز السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ومنذ مغادرته «البيت الأبيض»، واصل المستشار الرئاسي السابق، ملاحقة الصفقات العقارية الكبرى عالميا. وبحسب ما ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز»، كان آخرها في «صربيا»، و«ألبانيا»؛ لكن يبدو أن اندلاع الحرب في غزة، وتدمير الأراضي الفلسطينية، والمنازل والبنية التحتية، وتهجير المدنيين الذين يعيشون هناك قسرا، قد أثار اهتمامه بمدى ثراء القيمة التجارية لساحل البحر الأبيض المتوسط لقطاع غزة من أجل استغلالها ماليًا لخدمة مصالحه.
وفي مقابلة مع رئيس هيئة التدريس في مبادرة الشرق الأوسط بجامعة «هارفارد»، البروفيسور «طارق مسعود» في 15 فبراير 2024– والتي تم نشرها على المواقع الإلكترونية فقط في مارس 2024– قلل «كوشنر»، من حجم الكارثة الإنسانية الهائلة في غزة، والناجمة عن القصف الإسرائيلي والغزو البري، ودعا إلى الإبعاد القسري للفلسطينيين من أراضيهم، والاستيلاء الفعلي على الأراضي من قبل إسرائيل، بهدف تحويلها إلى «أراض ساحلية ذات قيمة»، بحسب وصفه. وللقيام بذلك، تبنى الكثير من الخطابات المماثلة والمناهضة للفلسطينيين، الخاصة بالقوميين الإسرائيليين المتطرفين الذين عبروا عن رغباتهم في السيطرة على قطاع غزة والاستيطان فيها.
وبشكل عام، تُظهر تعليقاته «استخفافا صادما»، بحياة الإنسان والمبادئ الأساسية للقانون الدولي. وفي ظل الوضع المروع الذي نزح فيه 1.5 مليون مدني داخليًا، ومواجهة أكثر من مليوني شخص حالة من انعدام الأمن الغذائي الحاد، فضلاً عن معاناة الأطفال من الجوع حتى الموت، لم يكن بوسع «كوشنر»، إلا أن يصف هذا بأنه «وضع مؤسف». وبدلاً من تقديم بعض الاقتراحات حول كيف يمكن لصانعي السياسات الأمريكيين إنهاء الحرب، وتوفير الدعم الضروري للمدنيين، ركز على «المنظور الإسرائيلي»، مؤكدا أن «أفضل خطوة» لحكومة بنيامين نتنياهو ستكون «نقل الفلسطينيين إلى خارج القطاع وإخراجهم منه».
وعلى الرغم من أن «نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية»، يقر بأن جرائم «الترحيل، أو النقل القسري» للفلسطينيين، تعد جرائم مناهضة للإنسانية، ترقى لمستوى خطورة أعمال الإبادة والتعذيب والاستعباد؛ فمن الواضح أن حقوق الإنسان للمدنيين الفلسطينيين النازحين ليست مجرد فكرة عابرة بالنسبة لـ«كوشنر»؛ حيث اقترح أن صحراء النقب ستكون «خيارًا أفضل»، لنقل هؤلاء المدنيين النازحين إليها حتى يتمكن الجيش الإسرائيلي من «إكمال حربه» في غزة.
وبشكل واضح، تجلت حالة اللامبالاة بحقوق الفلسطينيين لدى «كوشنر»، عندما سأله «مسعود»، عن «مخاوف الدول العربية من عدم سماح إسرائيل بعودة الفلسطينيين النازحين مرة أخرى إلى أراضيهم»، حيث لم يتمكن من الحصول على إجابة غير ملزمة منه سوى بكلمة «ربما»، ومع ذلك، أضاف أنه «لن يتبقى الكثير من الأراضي بغزة، ليعودوا إليها على أي حال». وفيما يتعلق بما سيتم فعله بالقطاع بعد إبعاد الفلسطينيين، أشار إلى أن «واجهة غزة البحرية»، يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة» للمشترين المحتملين. وبالتأكيد من المفترض أن يضع هو نفسه في هذه المعادلة أو الصفقة المحتملة.
وتعكس تعليقات المستشار الرئاسي السابق، التصريحات التي يدلي بها الإسرائيليون المتطرفون بشأن الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وإجلاء سكانها منها ليحل محلهم المستوطنون اليهود. وبالفعل، أيد كل من وزير الأمن القومي «إيتمار بن غفير»، ووزير المالية «بتسلئيل سموتريش»، مسألة إبعاد الفلسطينيين من غزة، واستيطانها على غرار الأراضي التي تم الاستيلاء عليها في الضفة الغربية. كما ادعى «سموتريش»، في مارس2023، أنه «لا يوجد ما يسمى بالأساس بدولة فلسطينية». ولم يمض سوى عام حتى شكك «كوشنر»، بالمثل في شرعية قيام الدولة الفلسطينية من خلال القول بأن ملكية إسرائيل لغزة «لن تكون أمرا طارئًا، أو سابقة تاريخية»، بقدر كونها «نتيجة حرب بين إسرائيل وحماس».
ومن بين تأكيداته المعلنة الأخرى التي روج لها السياسيون الإسرائيليون اليمينيون المتطرفون الزعم بأن الإدارة الاقتصادية من قبل القادة الفلسطينيين وحماس هي التي أعاقت نمو غزة اقتصاديًا، وليس الحصار الإسرائيلي المستمر منذ سنوات على القطاع. وتم انتقاد هذه الرواية بشكل شامل من خلال تقارير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، والتي أكدت على الآثار الكارثية المترتبة على «القيود الإسرائيلية المفروضة على حركة الأشخاص والبضائع»، و«تدمير الأصول الإنتاجية في العمليات العسكرية المتكررة»، والحظر المفروض على استيراد التكنولوجيات والمدخلات الرئيسية»، وهو ما أدى بدوره إلى تفريغ اقتصاد غزة، بعد أن عزلت إسرائيل القطاع برمته عن بقية العالم.
وبالنظر إلى الطريقة التي كرر بها خلال مقابلته في «جامعة هارفارد»، الخطاب العدائي تجاه الفلسطينيين، الذي يستخدمه السياسيون الإسرائيليون المتطرفون، ووضع أولوية الفرص العقارية التجارية بوضوح فوق حقوق الإنسان للمدنيين المحاصرين داخل منطقة الحرب؛ فليس غريبا مدى الانتقادات الموجهة لتصريحاته، والتي كانت سريعة ولاذعة في آن واحد. وانتقد الصحفي والمحلل الأمريكي، «بن نورتون»، اقتراحه بشأن «التطهير العرقي للفلسطينيين من غزة»، وكيف أنه على ما يبدو «سال لعابه» من احتمال حصوله على أراضي القطاع.
واستمرارا، أعرب «ديلان ويليامز»، من «مركز السياسة الدولية»، عن استيائه من كون شخصية سياسية أمريكية معروفة مثله، هي التي «تدافع علنا عن التطهير العرقي في غزة». فيما أدان «جوش روجين»، في صحيفة «واشنطن بوست»، «حجم القسوة المطلقة لهذه الكلمات والتصريحات العدائية»، موضحا أنه «ينبغي فهم تعليقاته على أنها «صورة متوقعة لما ستبدو عليه سياسة إدارة ترامب تجاه إسرائيل»، وهو الاستنتاج الذي توصل إليه أيضًا «باتريك وينتور»، في صحيفة «الجارديان».
وفي حين ذكرت «روزينا سابور»، في صحيفة «التليجراف»، أن «كوشنر»، نفى بالفعل مسألة عودته إلى أي دور في الحكومة المحتملة لولاية ترامب الثانية، و«ابتعد كليا عن الحملة الرئاسية لعام 2024»، فقد أوضح «إريك بازايل-إيميل»، في مجلة «بوليتيكو»، أن هذه التعليقات تتناسب مع رؤية «الجمهوريين»، ومحاولات التقليل من شأن المطالبات الفلسطينية بالحق في الأرض والمواطنة.
ولعل التصريحات الأخيرة لـ«ترامب»، نفسه هي دليل على ذلك أيضًا. وفي مارس 2024، أكد الرئيس السابق أنه «متفق» مع سياسة إسرائيل في «إنهاء كافة مشاكلها الأمنية»، خلال حربها مع غزة. وفي حين انتقد «جوناثان سوان»، و«ماجي هابرمان»، و«مايكل جولد»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، تصريحات «كوشنر»، ودعوته إلى إنكار حقوق الإنسان للفلسطينيين، وترحيلهم القسري من غزة إلى النقب، والتخلص من فكرة الدولة الفلسطينية المستقبلية؛ فقد أوضح «روجين»، أن هذه التصريحات ترسم بالفعل ملامح سياسات الإدارة الجمهورية المستقبلية تجاه الشرق الأوسط، وعملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية.
وفي الأسابيع التي تلت حديثه في «جامعة هارفارد»، منحت رابطة مكافحة التشهير – وهي منظمة بارزة للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة – «كوشنر»، جائزة لـ«عمله الحيوي والمؤثر للغاية بشأن تعزيز قضية السلام في الشرق الأوسط»، بحسب ما أشار إليه رئيس الرابطة «جوناثان جرينبلات». ووفقا للعديد من المراقبين، فإن مثل هذا التكريم في غير محله حتى قبل أن تحظى تعليقاته -المشار إليها – باهتمام واسع؛ نظرًا لأنه لطالما كان ينصح الرئيس السابق بتهميش الفلسطينيين، واتباع سياسة خارجية مؤيدة بشدة لإسرائيل، وهو ما قوض بشكل واضح دور الوساطة الأمريكية في عملية السلام برمتها. وبعد تصريحاته التي تناقلتها وسائل الإعلام الغربية الرائدة، وتغطيتها لمواقفه تجاه التهجير القسري للمدنيين الفلسطينيين من غزة، واحتلال إسرائيل للقطاع، ورفض قيام الدولة الفلسطينية المستقبلية، أصبحت صورة «كوشنر»، كمحاور موثوق به في المنطقة، أمرًا غير مقبول، وغير منطقي.
على العموم، على الرغم أنه من غير المتوقع أن تشهد ولاية «ترامب»، الثانية المحتملة، عودة لصهره إلى البيت الأبيض؛ فإن تجاهل «كوشنر» لحقوق الإنسان والقانون الدولي؛ يعكس مواقف كبار المسؤولين الجمهوريين -بما في ذلك ترامب – تجاه القضية الفلسطينية والحرب في غزة. وفي حين أن تصريحات وأفعال الرئيس الحالي «جو بايدن»، ومسؤوليه الديمقراطيين تجاه الحرب قد تعرضت أيضا لانتقادات واسعة النطاق؛ يظل واضحا أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة لن تقدم أي إنفراجة للفلسطينيين، وحماية حقوق الإنسان للمدنيين، والتمسك بمعايير القانون الدولي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك