في السابع والعشرين من مارس 2024 قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حديث أمام عدد من الطيارين الروس إن «روسيا ليس لديها أي خطط تجاه أي دولة عضو في حلف شمال الأطلسي «الناتو»، وأنها لن تهاجم بولندا أو دول البلطيق أو جمهورية التشيك» ولكنه أضاف «إذا قام الغرب بتزويد أوكرانيا بمقاتلات إف-16 فسوف تسقطها القوات الروسية» وقال «إن تلك الطائرات بإمكانها حمل أسلحة نووية ولكنها ستكون أهدافاً مشروعة لروسيا إذا انطلقت من دولة ثالثة»، وقد جاءت تلك التصريحات في أعقاب تصريح مهم للغاية صدر قبل أيام أدلى به روب باور رئيس اللجنة العسكرية في الناتو وقال «إن الحلف مستعد لصراع محتمل مع روسيا»، وتضمن حديث الرئيس بوتين نقاطاً أخرى كثيرة من بينها «إن الحلف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة توسع شرقاً باتجاه روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991»، وواقع الأمر أن ذلك هو جوهر احتدام الصراع بين الجانبين على النحو الراهن وهو الأمر الذي كان مثار تساؤلات وجهت لي من بعض باحثي العلوم السياسية ممن يعدون رسائل دكتوراه حول الناتو ومنها ما هو الحدث الأكبر الذي يمكن اعتباره تحولاً في سياسات الطرفين وأدى إلى احتدام الصراع ؟ صحيح أن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 كان تحولاً مهماً إلا أن موجات توسع الناتو ومحاولة «قضم» الدول التي كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي السابق هي جذور الصراع الراهن من خلال موجات متتالية من الانضمام وفق برنامج الشراكة من أجل السلام الذي استحدثه الناتو من أجل «تأهيل» الدول الراغبة للحصول على عضوية الحلف والتي يجب عليها استيفاء معايير محددة بشأن إصلاح أجهزة الأمن وكذلك السياسات الاقتصادية لتصبح مؤهلة لنيل عضوية الحلف وبمقتضى ذلك البرنامج حصلت العديد من دول الاتحاد السوفيتي السابق على عضوية الناتو، ولم يمثل ذلك مشكلة لروسيا فكل دولة لها الحق في الانضمام إلى هذا التحالف أو ذاك بل إن روسيا قبلت بتأسيس مجلس الناتو – روسيا عام 2002 كآلية للتشاور والتنسيق مع الحلف وكان المجلس يجتمع بشكل منتظم ومن خلاله عبرت روسيا عن مخاوفها للغرب بشأن موجات التوسع المتتالية وقدم الحلف رؤيته لقبول عضوية دول جديدة.
ولكن وكما أشرت من قبل في بعض المقالات فإن أوكرانيا تختلف على نحو جذري عن الدول السابقة التي سعى الحلف إلى التمدد فيها لكونها تعكس مفهوم الدولة العازلة وحال حصولها على عضوية الناتو كان ذلك سوف يعني تماساً استراتيجياً مباشراً مع روسيا بما ينهي مفهوم «العمق الاستراتيجي» الذي يعد أحد مقومات الأمن القومي للدول الكبرى والتي يجب أن يكون لديها ما يسمى «الفناء الخلفي» كمتطلب لحماية أمنها القومي وخاصة إذا كانت تخوض صراعاً ممتداً.
ونأتي إلى السؤال الأصعب: هل ستكون هناك مواجهة عسكرية مباشرة بين الناتو وروسيا؟ وتكمن الإجابة عن ذلك التساؤل في سياق التصريحات المتبادلة فحتى اللحظة الراهنة وضعت روسيا شروطاً واضحة ومحددة لذلك وهي أنها سوف تقوم بضرب أي قوات أطلسية على الأراضي الأوكرانية في الوقت الذي أكد فيه روب باور «أنه لا نية لنشر قوات أطلسية على الأراضي الروسية وأن أحد شروط عضوية أوكرانيا في الناتو هو ألا تكون هناك عمليات عسكرية على أراضيها».
ويعني ما سبق إننا إزاء صراع ممتد تجاوز الثلاث سنوات حتى الآن دون مواجهة عسكرية مباشرة لأن المسألة لا ترتبط بمفهوم القدرات العسكرية التقليدية فحسب، فمع أن الجيش الروسي يحتل المركز الثاني في تصنيف جيوش العالم بعدد جنود يبلغ مليونا و300 ألف جندي فإن جيوش 7 دول فقط من الناتو التي بلغت 32 مع انضمام السويد رسمياً، تتفوق على الجيش الروسي وفي مقدمتها الجيش الأمريكي، ولكن المسألة لا ترتبط بالقدرات التقليدية فروسيا تتفوق نووياً بحوالي 6255 رأسا نوويا في مقابل 6056 لدى الناتو، صحيح أن اللجوء إلى استخدام تلك الأسلحة خيار مستبعد ولكنه ورقة يتم توظيفها في الصراعات وتقدم لنا أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 دروساً مستفادة عندما قام الاتحاد السوفيتي بنصب صواريخ نووية في كوبا التي تبعد 90 ميلاً عن سواحل فلوريدا في ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي آنذاك إلا أن الطرفين نجحا في نزع فتيل أزمة على مدى 13 يوماً كادت أن تضع العالم على شفا مواجهة نووية.
ولست بحاجة إلى تحليل المزيد من التصريحات الأطلسية التي تؤكد عدم نية الحلف خوض مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا ليس لتوازن القوى النووي الذي أشرت إليه فحسب بل دائماً ما أرتكز في تحليلي إلى الوثائق الرسمية، ففي المفهوم الاستراتيجي الصادر عن الناتو عام 2022 وهو بمثابة مراجعة أمنية تصدر كل عشر سنوات يحدد الحلف من خلالها المخاطر الأمنية التي تواجه دوله الأعضاء وكيفية مواجهتها فبرغم استحواذ الصراع مع روسيا على جل تلك الوثيقة فإن المهم هو كيف حدد الحلف سبل مواجهتها؟ جاء في المفهوم الاستراتيجي وبكل وضوح «لا يسعى الناتو إلى المواجهة ولا يشكل أي تهديد على الاتحاد الروسي ولكنه سوف يواصل الرد على التهديدات بشكل موحد ومسؤول» وحدد المفهوم ثلاث مهام خلال السنوات المقبلة وهي الردع والدفاع، منع الأزمات وإدارتها، الأمن التعاوني، ويعني ذلك أن الحلف كما أشرت يقوم بإدارة الأزمة الأوكرانية وفقاً لتطوراتها دون مواجهة عسكرية وهو ما تحرص عليه روسيا في الوقت ذاته ولذا لم يكن مستغربا أن تتعالى بعض الأصوات التي تطالب أوكرانيا بضرورة قبول خيار التفاوض مع روسيا مع تراجع الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا.
ومع استبعاد سيناريو المواجهة العسكرية المباشرة فإن تلك الأزمة تقدم دروساً ثلاثة مستفادة لأوروبا ودول الشرق الأوسط أيضاً، أولها: فكرة الأمن الذاتي، فحالة الانكشاف الأمني الأوروبي أمام القوة الروسية تتطلب تفكير أوروبا وعلى نحو استراتيجي أن يكون لديها بديل أمني يتكامل مع الناتو ولا يتعارض معه، وثانيها: فكرة توازن القوى وتأثيرها في الصراعات، وربما تلك الفكرة سوف تشهد مراجعات في ظل تأثير توظيف التكنولوجيا في الصراعات، ومنها الطائرات من دون طيار سواء جواً في الحرب الأوكرانية وبرا وبحراً في التطورات الراهنة في باب المندب والبحر الأحمر، وثالثها: حالة التحول التي يشهدها النظام العالمي، صحيح إنه من المبكر القول إننا أمام نظام دولي متعدد الأقطاب ولكن انتظام دول العالم في تكتلات اقتصادية ومنها البريكس ربما تكون مقدمة ومؤشراً مهماً على ذلك التحول.
ومع أهمية ما سبق فإنه يجب دائماً المقارنة بين الأقوال والأفعال في سياق ذلك الصراع المحتدم.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك