لم تكن غزوة بدر من منظور المساحة الجغرافية أو عدد أفراد الجيوش المقاتلة أو حتى الخطط والتكتيكات الحربية تُعد من أقوى المعارك والغزوات التي جرت في شبه الجزيرة العربية، إذ أنها يمكن أن تُعد واحدة من المعارك التي جرت بين بعض القبائل العربية المتناحرة، إذ أنها مجرد سويعات وانتهت المعركة بغلبة أحد الطرفين على الآخر، وذهب كل في طريقه.
ولكن في الحقيقة التاريخية والعقائدية والثقافية والفكرية يمكن أن تُعد غزوة بدر من أهم المعارك التي جرت ليس في شبه الجزيرة العربية فحسب وإنما على مستوى الكرة الأرضية، إذ أنها تُعد المعركة التي كانت أساسا لتكوين الدولة الإسلامية التي غيرت مجرى التاريخ، إنها معركة ما بين حضارات وثقافات وأفكار، إذ أنها هدمت كل تلك الأوثان البشرية والفكرية التي عفا عنها الزمن لتكوّين حضارة جديدة، وفكر جديد، وحياة جديدة قائمة على الطهارة والقيم والرقي الفكري والثقافي والنفسي والجسدي.
حسنٌ، لماذا غزوة بدر معركة كونية فاصلة؟
من غرائب هذه المعركة، أن الله سبحانه وتعالى هو من قام بتحديد كل أمر فيما يخصها، فهو سبحانه الذي اختار زمان المعركة، ومكانها، وحتى أنه حدد أهدافها وبكل دقة.
فنحن نعلم اليوم، أن المعركة لم تبدأ بهدف الخوض في معركة، وإنما كان هدفها الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجتمع المدينة المنورة هو استرداد أموال المهاجرين التي اغتصبتها قريش، فكان الهدف ماديا بحتا، وإن كان حقا مشروعا، فالأموال التي كانت في قافلة أبو سفيان كان جلها من أموال المهاجرين التي تركوها خلفهم في مكة المكرمة أثناء الهجرة، وهذا يعني أنه من حقهم الآن بعد أن استقر بهم الحال في المدينة المنورة أن يستردوا أموالهم، وهذا هو الهدف البشري للخروج إلى أرض المعركة التي لم يحدد أنها معركة بعد.
عندما استشار القائد العام وحاكم المدينة المنورة رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتمع المدنية بالخروج للتصدي للقافلة، كان الاجماع يؤيد الخروج للقافلة والتصدي لها، ولقد اشارت الدراسات الى أن القافلة القرشية تُعد من أكثر القوافل المكية مالاً، فضرب هذه القافلة يمثل ضربةً اقتصاديةً هائلةً لمكة، فيها ألف بعير موقرة بالأموال، وفيها ما لا يقل عن خمسين ألف دينار ذهبي، بالإضافة إلى أن هذه القافلة ليست بقيادة قائد مغمور من قواد مكة أو تاجر عادي من تجار قريش، بل هي بقيادة أبي سفيان بن حرب من سادة قريش، ومع هذه القافلة حراسة مكونة من 30 إلى 40 فارسًا.
وهذا يعني ببساطة أن كل الأمور متاحة للمسلمين حتى يتصدوا للقافلة ويسترجعوا أموالهم المنهوبة.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، ولم يكن معهم إلا فرسان، وسبعون بعيًرا يتعاقبون على ركوبها، فعلم أبو سفيان بأمر خروج المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد العام بنفسه للتصدي للقافلة، فهرب، ولكنه وفي الوقت نفسه أرسل نذيرا لمكة المكرمة أن مجتمع المدينة قد خرج للتصدي للقافلة.
في تلك اللحظة حدثت ثلاثة أمور مهمة، وهي التي غيرت معالم المعركة؛
1- هروب قافلة قريش، فابتعدت عن طريق الجيش الإسلامي.
2- استنفار قوات قريش للتصدي للجيش الإسلامي الذي لم يكن يهدف منه أن يكون جيشًا، وإنما فريق صغير للتصدي للقافلة، فاستعدت قريش للخروج دفاعًا عن قافلتها، وحشدت كل طاقتها، ولم يتخلف منهم إلا القليل، فقد رأت قريش في ذلك حطًا لمكانتها، وامتهانًا لكرامتها، وضربًا لاقتصادها، وبلغ عددهم نحوًا من ألف مقاتل، ومعهم مائتا فرس يقودونها.
3- هذه الأحداث جعلت من فريق مجتمع المدينة الذي خرج للتصدي للقافلة أن يقف ويفكر، فهو أمام طريق لا ثالث لهما، إما أن يرجع للمدينة المنورة وإما أن يتحول من فريق إلى جيش، يقاتل مهما كانت النتائج.
هنا وفي هذه اللحظة، وعندما نفتح الستارة على مشهد المعركة نجد أن المعركة قد تحولت بكل حذافيرها من جانب إلى جانب آخر، ومن هدف إلى هدف، ومن رؤية إلى أخرى، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرف أن العودة إلى المدينة المنورة من غير قتال ستكون له آثار سلبية كبيرة، فهو سيهز كيان المسلمين بصورة كبيرة، وسيضيع مكاسب كثيرة تم جنيها في بعض المعارك الصغيرة التي سبقت غزوة بدر، ليس ذلك فحسب بل وسيشجع الكفار على التمادي في الحرب على المسلمين، فكلما رجع المسلم خطوة احتلها عدوه، ولا يستبعد مطلقًا إذا رجع الجيش المسلم أن يستمر الجيش المكي في المسير ويغزو المدينة، وعندئذ سيكون الخطر أكبر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن قائدًا ديكتاتوريًا، لذلك ومرة أخرى عقد مجلس الشورى بجميع من حضر الغزوة.
كان من الممكن أن يأمر، فيطاع، فهو القائد العسكري، وحاكم المدينة، وفوق ذلك كله فهو خاتم الأنبياء والرسل، فله الأمر كله، إلا أن صلى الله عليه وسلم دعا الجيش كله للتشاور، وهذا نهج إسلامي لا مراء فيه، وهذا منهج الجيوش المنتصرة.
كان الجيش الإسلامي كله يعلم – بحسب الاستخبارات النبوية – كم يبلغ عدد الجيش القرشي، ومن هم قادة الجيش، ومن هم كبار القوم الموجودون في الجيش، وكل ما هو موجود في الجيش القرشي، وهذا يعني التالي:
{ الجيش القرشي أكبر من الجيش الإسلامي بثلاثة أضعاف، وهذا يعني أن كل صحابي يجب أن يقابل ثلاثة من فرسان من الجيش القرشي.
{ وهذا بالإضافة إلى الأسلحة والإمكانيات وكل الأمور المادية، ولكن في العقيدة الإسلامية فإنه يكون راسخًا في قلوب وفي عقول المسلمين أن لا العدد ولا العدة يمكن أن يحسما المعركة، وإنما هناك أمور عقائدية وفكرية هي التي تأخذ بتلابيب المعركة إلى النصر أو الهزيمة.
{ ليس ذلك فحسب وإنما يعرف كل الصحابة وكل من الموجودين في الجيش القرشي أنهم سيواجهون أقاربهم وأرحامهم في أرض المعركة، وهذا يعني أن الابن يمكن أن يقاتل والده، أو بالعكس.
تبادل رسول الله صلى الله عليه وسلم الآراء مع الجميع، حتى تم الإجماع على القتال ومقابلة الجيش القرشي، مهما كانت النتائج.
وهذا يعني بكل بساطة أن المعركة تحولت تمامًا؛
{ فالهدف تحول من هدف مادي بحت إلى هدف عقائدي، قيمي، فكري، ثقافي، والذي حول كل هذا هو الله سبحانه وتعالى، وبإرادة الله وحده لا شريك له.
{ الله سبحانه وتعالى هو الذي اختار أرض المعركة.
{ الله سبحانه وتعالى هو الذي اختار زمن المعركة.
لذلك فإننا حينما نقول إن هذه المعركة لم يتدخل في تنظيمها بشر، فإن ذلك حق وواضح، فالله هو الذي حدد كل أمر فيها، ليس ذلك فحسب وإنما أنزل من السماوات الملائكة لتقاتل ضمن الجيش الإسلامي ضد الجيش المشرك.
ولكن على الرغم من يقين رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصر الله سبحانه وتعالى، فإنه لم يقف متفرجًا، وإنما فعّل ما المطلوب منه من الأمور البشرية واتخاذ أسباب النصر، من أجل ألا يركن البشر من بعده إلى التواكل في إنجاز حاجياتهم، فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
{ الشورى؛ تجلت منهجية الشورى في هذه الغزوة بأوضح صورة، إذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة رضوان الله عليهم قبيل خروجه من المدينة المنورة لملاقاة القافلة، وبعد أن هربت القافلة، ووجد نفسه أمام هدف جديد وهو القتال أعاد الكرة مرة أخرى واستشار من حضر من الصحابة رضوان الله عليهم في أمر الدخول في القتال، فحينما أجمع الجميع اتخذ القرار.
{ توحيد الصف والهدف؛ بعدما اتخذ قرار الدخول في المعركة، أصبح لزامًا على الجميع الاستعداد والخضوع للقائد العام للمعركة، وهذا ما حدث، ففي علم الإدارة والقيادة فإن على القائد أن يستشير وبعدما يتفق الجميع على المنهج والهدف وبقية الأمور، عليه هو كقائد أن يمسك زمام المبادرة لتحقيق الهدف مع فريق العمل، وهذا ما حدث في بدر، فالهدف تغير والاتفاق قد تم، والآن بقيت الأمور في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ الاستخبارات؛ خلال المراحل المختلفة للاستعداد لدخول المعركة استعان صلى الله عليه وسلم ببعض الصحابة رضوان الله عليهم لجمع المعلومات، إذ أنه جمع المعلومات عن القافلة، وبعدما هربت، وأتت المعلومات من خلال الاستخبارات التي أرسلها عن خروج قريش لمقاتلته، وعدد الجيش ومن هم قادة الجيش المكي، وكل المعلومات التي يحتاج إليها قبل أن يدخل المعركة، فلا يمكن الدخول في أي تجربة أيًا ما كانت من غير معلومات واضحة وجلية.
{ الحافز؛ على الرغم من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقينه بالنصر، فإنه لم ينس أن يثير الحوافز في نفوس الصحابة الكرام، فمرة أشار إلى مصارع قادة قريش على أرض المعركة، وتارة أخبر الصحابة رضوان الله عليهم أن جيشًا من الملائكة تحارب معهم، وتارة أخبرهم وبشرهم بالنصر، فللحافز أثر مهم في نفوس البشر، لذلك يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر كنوع من المناهج القيادية في الإدارة الذكية.
تنتهي المعركة بانتصار ساحق للجيش الإسلامي، تتكون بعدها الدولة وتنتصر خلال أعوام على قوى العالم ليصبح الدين الإسلامي منذ تلك اللحظة من أكثر الأديان انتشارًا في العالم، ويصبح اتباعه من أكثر الأمم كرامة وهيبة فلا يرضون الظلم ولا الهوان، لذلك فإن غزوة بدر تعد هي الأولى من نوعها في تاريخ البشرية، كونها الغزوة التي غيرت مجرى التاريخ والكون.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك