شهد التاريخ الإنساني علاقة انسجام وتكيّف قوية بين الإنسان والطبيعة، حيثُ بحث الأفراد عن عدة وسائل كفيلة بحمايتهم من قساوة الظروف الطبيعية، وذلك لمواجهة أهم الظواهر قساوة، وهي التغيرات المناخية التي تسبب تحديات كبيرة على مستوى الكرة الأرضية، والتي تشمل هذه التغيرات في الزيادة الكبيرة في الانبعاثات الكربونية، مسببة بذلك ظاهرة الاحتباس الحراري، وتشكل خطرًا جديًّا على الأمن الغذائي وأبعاده وخاصة بالدول النامية؛ لذا فقد وضعت معظم الدول، ومنها مملكة البحرين أهدافا لتحقيق التنمية المستدامة بالتوافق مع الأهداف التنموية للأمم المتحدة، وخاصة بعد الدعوة الموجهة إلى الدول بالعمل على التثقيف والتوعية المجتمعية حول قضايا وآثار المناخ كما ورد في مسمى الاتفاقية «اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ، واتفاق باريس للمناخ» حول أهم هذه الأهداف الداعمة بشكل عام لحماية البيئة واستدامة الموارد الطبيعية، وقد تمت ترجمة إجراءاته بواسطة برنامج اليونسكو للتعليم في مجال التغير المناخي من أجل التنمية المستدامة، والذي أُنشئ في عام 2010، لمساعدة الأفراد على فهم التغير المناخي من خلال توسيع أنشطة التعليم في مجال التغير المناخي في التعليم الرسمي وغير الرسمي، وكذلك من خلال وسائل الإعلام والتواصل والشراكات. هذا ويرتكز على النهج الشامل للتعليم من أجل التنمية المستدامة (إي إس دي) الذي يدمج قضايا التنمية المستدامة الرئيسية مثل التغير المناخي، والحد من أخطار الكوارث وغيرها في التعليم، بطريقةٍ تعالج الترابط بين الاستدامة البيئية والجدوى الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
وبما أننا اليوم أمام دعوة مسؤولة منبثقة من التوجيهات الملكية السامية نحو صياغة «الرؤية الاقتصادية للمملكة 2050» وفق ركائز ثابتة وواقعية؛ وانطلاقًا من جهود مملكة البحرين الحثيثة المبذولة لتعزيز مواجهة الآثار المترتبة على التغيرات المناخية حفاظًا على الأنظمة البيئية المتكاملة والمستدامة التي تعزز المرونة والقدرة على مواجهة المخاطر الطبيعية، ووفقًا للرؤية الاقتصادية للمملكة 2030 التي استندت على مبادئ «التنمية المستدامة الشاملة» و«التنمية الإقليمية المتوازنة»، والتي عكست الأبعاد الثلاثة للتنمية المستدامة: البعد الاقتصادي، والبعد الاجتماعي، والبعد البيئي؛ لذا كان لابد من الإشارة إلى الاستدامة البيئية التي تتطلب مشاركة نشطة ومدروسة بإشراك جميع فئات وأفراد المجتمع، ومؤسساته لترجمة القوانين والمراسيم بأساليب وطرق تناسب الواقع الحقيقي الذي يحاكي المتطلبات المجتمعية والوطنية والعالمية، إن الحفاظ على الأرصدة الطبيعية يحقق التوازن بين النمو الاجتماعي والاقتصادي والبيئي؛ حيثُ إن التعليم في مجال العلوم البيئية بشكل خاص أصبح صناعة أساسية على نطاق عالمي يرتكز على إبراز وحماية الموائل الطبيعية للبيئة البحرية والبرية والمواقع التراثية ذات الطبيعة المتفردة. وتأتي كل هذه الأهداف المرجوة في إطار ضمان السلام والأمن وتعزيز التقدم إقليميًّا ودوليًّا.
وبما أن التعليم يعدُ أحد العوامل الحاسمة في معالجة قضية تغير المناخ، وذلك باعتبار العنصر الذي له تأثير واضح في الفرد وسلوكه سواء في حاضره أو مستقبله، هذا وقد أسندت اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC) المسؤولية إلى الأطراف في الاتفاقية للقيام بحملات تثقيفية، وحملات توعية عامة بشأن تغير المناخ، وضمان مشاركة جميع المتعلمين وتزويدهم بالمعارف والمهارات الأساسية حول القضايا المناخية، والسؤال هنا: ما مدى مساهمة التعليم فعليًا في مواجهة التغيرات المناخية؟
بالفعل إن تفاقم قضايا المناخ تعد من أهم المشكلات والتحديات التي تعاني منها المجتمعات منذ قيام الثورة الصناعية وحتى الآن؛ وذلك بسبب أنشطة الإنسان غير المسؤولة والتي ترتب عليها زيادة في ارتفاع درجات الحرارة، والاحتباس الحراري الذي أثر في ثروات البيئة البحرية، وتآكل السواحل وزيادة حموضة مياه المحيطات نتيجة زيادة حرق الوقود الأحفوري، وزيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون المذاب بالماء، بالإضافة إلى تبييض الشعاب المرجانية بسبب ارتفاع درجة حرارة المياه خاصة تلك الناتجة عن مياه المصانع؛ لذا كان لابد من تفعيل دور المؤسسات التعليمية في مجال التغيرات المناخية بصفة مستدامة، بداية من التوعية الشاملة لكل الطلبة وفق مراحلهم التعليمية، مرورًا بالمبادرات الوطنية الصديقة للبيئة التي تم إطلاقها بهدف تحقيق أفضل استخدام للموارد الطبيعية، ومنها الحملة الوطنية «دمت خضراء» التي ساهمت بشكل وأثر ملحوظ في زيادة الرقعة الخضراء بالمملكة حاليًا، وعملت على رفع الوعي لدى المواطن عن القضايا البيئية، إضافة إلى عمل الندوات الثقافية لتوعية الطلبة، وجميع منتسبي المؤسسات التعليمية لتعزيز التعليم في مجال التغير المناخي الذي من شأنه أن يسهم في خلق جيل مستدام، ومدرك للتحديات البيئية، ويسهم في العمل المشترك لمواجهة التغير المناخي على المستوى العالمي.
ويمكن للتعليم في مجال التغير المناخي أن يشمل عدة جوانب، بما في ذلك:
-التوعية والتثقيف من خلال توفير المعلومات الأساسية حول التغير المناخي وأسبابه وتأثيراته المحتملة. يمكن استخدام وسائل التواصل المختلفة، مثل المدارس والجامعات، والحملات الإعلامية والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، لتوعية المجتمع بأهمية المسائل المتعلقة بالتغير المناخي.
-تطوير المهارات، حيثً ينبغي تزويد أفراد المجتمع كافة بالمهارات اللازمة للتصدي للتغير المناخي، مثل المهارات العلمية، والتكنولوجية، والتحليلية، والاتصالية. ويمكن للتعليم أن يشمل التدريب على استخدام التكنولوجيا الخضراء والتطبيقات العملية للحفاظ على البيئة. ويمكن أن يدمج التعليم للحد من التغيرات المناخية بمبادرات ميدانية، من خلال القيام بحملات تثقيفية وتوعوية لمراحل التعليم الإلزامية؛ للتوضيح بشأن القضايا الخاصة بالبيئات البرية والبحرية، ورفع مستوى تفاعلهم مع هذه القضايا من خلال تبسيط الأفكار تبعًا لمستوياتهم، وتزويدهم بالمعارف والمعلومات المناسبة، حتى تتسع مداركهم ونظرتهم المستقبلية حول هذه القضية المعضلة.
-التعاون والمشاركة المنتجة في مجال التغير المناخي بين الأفراد والمجتمعات والحكومات والمنظمات غير الحكومية، وذلك بواسطة تنظيم ورش العمل والندوات والمنتديات لتشجيع التفاعل وتبادل المعرفة والخبرات.
- تشجيع البحث والابتكار في مجال التغير المناخي من خلال دعم الأبحاث العلمية وتطوير تقنيات جديدة وحلول مبتكرة. ويمكن استخدام التعليم لتعزيز روح الابتكار وتشجيع الطلاب والشباب على المشاركة في مشاريع بحثية ذات صلة بالتغير المناخي.
-التعليم القائم على المشروعات وحل المشكلات والذي يعدً من أفضل الاستراتيجيات التي تتناسب مع أهداف التعليم الموجه لحل مشكلة التغيرات المناخية، إذ يقوم على البحث والتقصي والتجريب والعمل الجماعي واختبار التفكير، كما يعزز القيم البيئية التي تساعد الطلبة على التكيف مع محيطهم البيئي، والتفاعل مع قضاياهم والعمل على إيجاد حلول لها، وتفعيل دورهم الوطني للمحافظة على الموارد البيئية والعمل من أجل الاستدامة، وابتكار ما يدفع عجلة التنمية وحركة البناء التنموي والابتكار في مجال التكنولوجيا الخضراء.
وهناك العديد من الأفكار القابلة للتنفيذ انطلاقًا من مناقشة المفاهيم البيئية، وقضايا المناخ الرئيسية، ومنها «الثقافة المناخية»، والتنوع البيولوجي، والاستدامة البيئية، فضًلا عن تخصيص فقرات يومية بالإذاعة للتغطية الإخبارية لأحداث وفعاليات خاصة بالوضع المناخي بالعالم بشكل يومي، وربط التغيرات المناخية بالأنشطة الصفية واللاصفية قدرّ الإمكان، وتنفيذ حملات توعوية للطلبة بظاهرة التغيرات المناخية أسبابها وتأثيراتها السلبية في الإنسان والبيئة والكائنات الحية، وكيفية مواجهتها والحد منها، وإعداد خطة لتنفيذ مجموعة من الندوات والمسابقات الفنية للطلبة والمعلمين، وجميع منتسبي المؤسسات التعليمية حول ظاهرة التغيرات المناخية، مع ضرورة التأكد من تحقيق أقصى استفادة من التدريب وقياس الأثر، ونقل الخبرات، وتنفيذها على أرض الواقع تطبيقًا لمبادئ المدارس المستدامة.
وبشكل عام فإن احتواء المناهج الدراسية على المواضيع المرتبطة بالتغيرات المناخية سيكون له أثر واضح في اكتساب الطلبة المفاهيم والمهارات البيئية المفترض تعلمها، ومنها على سبيل المثال: الآثار الناجمة عن التغيرات الحاصلة في البيئة جراء التدهور والتلوث مثل تلوث الهواء والتربة والماء وأسباب حدوثها والنتائج المترتبة عليها في أصناف الموائل الطبيعية وإيجاد الحلول للحد من تفاقمها، مما يؤثر سلبًا في جودة حياة البشر والكائنات الحية. إن تطوير مهارات المعلمين ومنتسبي المؤسسات التعليمية في آليات بناء وتصميم من الأنشطة المصاحبة موضوعات المناهج الدراسية في مجالات تخصصهم؛ تكسب الطلبة اتجاهات إيجابية نحو قضايا البيئة وحمايتها، واكتشاف طرق مبتكرة لتحقيق ذلك، تتفق مع مراحلهم الدراسية، ومهاراتهم، وفئاتهم العمرية، وقدرتهم على تطبيقها على أرض الواقع.
كما أن هناك العديد من التجارب الدولية الناجحة، والتي أثبتت فاعليتها في التصدي للتغير المناخي، حيثً إن اليونسكو تعمل مع بعض الحكومات الوطنية لدمج التعليم في مجال التغير المناخي في المناهج الوطنية، وتطوير مناهج التعليم كافة، ومثالا لبعض هذه التجارب الدولية أستراليا التي اعتمدت في عام 2002م خطة وطنية تحمل عنوان التعليم البيئي لمستقبل مستدام، وأطلقت عددًا من المبادرات لتنفيذ الخطة الوطنية، ومن أبرزها مبادرة المدارس المستدامة الأسترالية، كذلك فقد تم إطلاق أول منهج دراسي وطني في التغير المناخي، وفي الصين تم إدخال التعليم البيئي في أواخر سبعينيات القرن العشرين، وتم التوجه نحو التعليم البيئي بعد مؤتمر (قمة ريو دي جانيرو 1992)، وفي 2003م، تم تطبيق التعليم البيئي في المدارس الابتدائية والثانوية، ودمج المناهج وبناء قدرات المعلمين في مجال التغير المناخي.
وإنه في إطار الجهود الوطنية لمملكة البحرين في دمج قضايا تغير المناخ بالتعليم؛ فقد أولت وزارة التربية والتعليم دورًا مهما ضمن الخطة الاستراتيجية التعليمية للمملكة في التصدي لتغير المناخ، والبدء في تطوير المناهج وتصميم المشاريع ودمج عامل التغير المناخي والبعد البيئي، من أجل تعليم الطلبة العادات الأكثر صداقة للبيئة؛ كما أنه يساعد الطلبة على اكتساب مهارة اتخاذ القرار، وخلق جيل يدعم إجراءات خفض التلوث بثاني أكسيد الكربون، حيثً يهدف مجال تغير المناخ من أجل التنمية المستدامة إلى تعزيز مساهمة هذا التعليم في الاستجابة الدولية لتغير المناخ وجعلها أكثر وضوحًا، وتعوّل المملكة على جهود وزارة التربية والتعليم في الحد من آثار مشكلة التغير المناخي والتدهور البيئي، وذلك لقدرتها على الوصول بشكل مباشر إلى الطلبة والشباب والمجتمع المحيط بالمؤسسات التعليمية من خلال التوعية البيئية والأنشطة المصاحبة من المسابقات، وكل ما ستقوم به المؤسسة التعليمية من توعية للمجتمع والبيئة المحيطة بها. وتشجيع المجتمع على تغيير مواقفه وسلوكه، وإكسابهم نهج التعلم مدى الحياة.
{ مختصة في فلسفة الدراسات
البيئية وآليات التنمية المستدامة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك