لستُ ممَن يقيسون علاقتهم بالواقع السياسي بمشاعرهم العاطفية. وإذا كنتُ أتمنى من أعماق نفسي أن تُهزم إسرائيل وأن يُكسر جبروت كل القوى الغاشمة لكي يستعيد الضعفاء والمعذبون حقوقهم فإنّني أدرك أنها لن تُهزم بالأمنيات، مهما كانت تلك الأمنيات صادقة وعادلة. وما وضعته حرب غزة على الطاولة بكل وضوح، وهو معطى لا يمكن إنكاره، أن إسرائيل هي روح الغرب في منطقة الشرق الأوسط. والروح هي ليست المصالح الاقتصادية، بل هي شيء أكثر عمقا. فحين يشير الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى مقتل أكثر من ثلاثين ألفا من أهل غزة فذلك لا يعني بالضرورة أن الإدارة الأمريكية في صدد تغيير موقفها المتضامن مع العدوان الإسرائيلي شكلا ومضمونا، وأفعالا وتحديات. وما استخفاف بنيامين نتنياهو من تصريحات بايدن إلا دليل على ثقته بأن السياسة الأمريكية في مكان ثابت لا يمكن أن تؤثر فيها مأساة الفلسطينيين المستمرة ليس منذ السابع من أكتوبر، بل منذ أكثر من 75 سنة هي عمر الدولة العبرية.
ومع ذلك فإن هزيمة إسرائيل ليست مستحيلة حين تجرها رعونة أفعالها إلى فخ لن تستطيع الخروج منه بيسر. فبعد أكثر من خمسة أشهر من الحرب المفتوحة على غزة لم تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها. لا لأن المقاومة مستمرة بحسب، بل أيضا لأن الموقف الشعبي الفلسطيني ازداد تماسكا وصلابة. مَن يحب حركة حماس ويناصرها ومَن يمقت الحركة ويعتبرها خروجا على تاريخ النضال الوطني المسلح لا يملك سوى أن يقف ضد الهمجية الإسرائيلية التي لم تنتج عن خطأ متعمد ارتكبه اليمين بقيادة نتنياهو، بل تقع في صلب العقيدة الصهيونية التي لا ترى في الفلسطينيين سوى حشرات كما صرّح وزير الحرب الإسرائيلي وليس من الوارد في عرفها أن يتساوى مقتل الآلاف من الفلسطينيين بمقتل إسرائيلي واحد. وإن أكد فلسطيني أن حركة حماس لا تمثله وهو أمر طبيعي فليس في إمكانه الثناء على آلة القتل الإسرائيلية التي حين عجزت عن القضاء على حركة حماس استدارت إلى أهل غزة المدنيين العزل وصارت تحصدهم بالآلاف كالحشرات تطبيقا لمبدأ الإبادة.
وإذا كانت إسرائيل تضلل نفسها من خلال اعتماد الإبادة مبدأً لها في تعاملها مع سكان الأرض الأصليين فإن الأمريكان الذين يعتبرون الإسرائيليين ورثة لهم في الأخلاق لا بد أن يثنوا على ذلك السلوك وهم في ذلك يزيدون من تورط إسرائيل في الجريمة التي ستوسع من المسافة التي تفصلها عن أيّ مقاربة إنسانية، يمكنها أن تكون أساسا لإعادة النظر في حقوق شعب اغتصبت أرضه وحُرم من أسباب الحياة الحقة حين شُرّد عبر أجيال نجحت في الشتات في أن تحافظ على هويتها الفلسطينية. لم تتعلم إسرائيل شيئا من الدرس الفلسطيني الشامل واختصرت صراعها بـ«حماس» وهي تنظيم مسلح أضفى على المسألة طابعا دينيا ليس منها. وإذا كان ذلك التنظيم قد خدش الهوية الفلسطينية حين عرّضها لتجاذبات دينية ضيقة فإن العمود الفقري لتلك الهوية لا يزال قائما وسليما. بل إنه ازداد قوة حين ضُربت غزة بحجة محاربة الإرهاب. سنوات طويلة والإعلام الغربي (الأمريكي والبريطاني بشكل خاص) عمل على النظر إلى المقاومة الفلسطينية باعتبارها مجرد تنظيمات إرهابية خارجة على القانون.
لن يغير الغرب موقفه من النضال الوطني الفلسطيني وذلك بسبب خوفه من استعادة التفكير بالمسألة اليهودية. الانحياز الثابت لإسرائيل لا يستمد قوة ديمومته واستمراره من كراهية العرب وحب إسرائيل بل من شبح عودة اليهود إلى أوروبا وانهيار المشروع الاستيطاني الذي تمت من خلاله عملية التخلص منهم والانتهاء من عقدة استمرت قرونا. الغريب في الأمر أن الغرب لا يضع خبرته في مجال القيم الإنسانية معيارا للفصل بين انحيازه السياسي والشرط القانوني الذي فرضت القرارات الدولية حقوقا للفلسطينيين ينبغي أن تُحترم. يقف الغرب وراء إسرائيل في كل ما تفعله. موقف أعمى لن تستفيد منه إسرائيل كثيرا وهي تمحو إمكانية أن تتفاوض مع الفلسطينيين على حل نهائي للمشكلة، كما أنه سيضر بسمعة الغرب لا أمام العالم وحسب، بل وأيضا بين شعوبه التي تشعر بالعار وهي ترى أنها صارت تمول الهمجية وعمليات القتل بأموال الضرائب التي تدفعها.
تواطؤ الغرب مع إسرائيل لن ينفعها في الخروج من مأزق غزة. وهي بالرغم من تفوقها العسكري لم تتمكن حتى اللحظة من القضاء على المقاومة وقد لا تتمكن من ذلك في الوقت الذي تزداد فيه جريمتها بشاعة. وبغض النظر عن الدعم الغربي فإن إسرائيل وهي »دولة« صغيرة لا تملك ما يؤهلها للاستمرار في حرب طويلة. ولكنها حين تصل إلى مرحلة اللاحل فإنها ستواجه هزيمة ستهز كيانها الداخلي. ذلك ما يخشاه نتنياهو.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك