التفاوض مع الإسرائيليين مرير ومقلق ومفاجئ ومثير للسخرية والعجب، فهو مرير لأنه قد يدور عدة ساعات بلا نتيجة وبلا هدف أيضا، فهناك آليات معينة يعرفها كل مفاوض محترف يستطيع من خلالها أن يفرغ كل المحادثات من معناها ومبناها، كأن يطيل مسألة التعريفات ويحيلها إلى معانيها القانونية والاجتماعية والفروقات الدقيقة بينها، أو أن يركز على قضايا هامشية جدا كمكان انعقاد المحادثات، وشكل المائدة، واللغة المستعملة وباقي البروتوكول المعمول به أو قد يتم التركيز على مسألة جوهرية قبل مناقشة المسائل الثانوية، المتعلقة بها والمؤدية إليها، مما يوجب العودة في كل مرة إلى تلك المسائل، الأمر الذي يربك مجرى المفاوضات، أو أن يتم وضع آلية مفاوضات تناقش فيها كل المسائل دفعة واحدة، وتطرح فيها كل الأسئلة، أو على العكس من ذلك تماما، كأن يتم وضع آلية مفاوضات يتم فيها طرح قضية واحدة ويمنع طرح أي قضية أخرى والإسرائيلي ماهر جدا في إدارة مفاوضاته، فهو يختار الشكل الأنسب لطرح القضية التي يود ربحها، إنه من خلال ذلك لا يعتمد على الحق وإنما يعتمد على أسلوب إدارة المفاوضات، وهكذا فعل القوي دائما في كل مراحل التاريخ، ومن عجب أن ترى أنه عندما ينهار هذا القوي فلا تجري معه مفاوضات وإنما يوقع دائما على وثيقة استسلام والإسرائيلي يميل دائما إلى تجزئة كل قضية إلى عناصر أولية، ويناقشها كلا على حدة، اعتقاداً منه أنه سيحقق ربحا ما في كل جزئية، فإذا جمع أرباحه على ضالتها فسيجد أنه حقق ربحا على حساب الحقيقة أو الواقع، ويعتبر أن هذا الربح كان حصيلة مهارة إنسانية لا تعتمد فقط على القوة العسكرية، إنه بذلك يحقق ما لا يفعله الغزاة عادة، أولئك الذين لا يفاوضون إلا في حالات الضعف.
والتفاوض مع الإسرائيلي مقلق باعتباره يجعل من الحقائق أوهاماً، ومن المسلمات قضايا بحاجة إلى برهان، ومن التاريخ حكاية أخرى، وهو يرى أن الحقيقة لا تمتلك وجها واحدا، أو أن للتاريخ وجهة محددة، أو أن النشاط الإنساني بعامة يؤدي إلى نتيجة إيجابية. يقلقك أن الإسرائيلي يرى في الأشياء ما لا تراه، ويرى في التاريخ ما لا تراه، وتستغرب أن يقول لك الإسرائيلي وهو يهتز من الثقة أن فلسطين كانت أرضا بلا شعب، وأن الشعب الفلسطيني غير معرف، وأن هذه الأرض أعطيت لليهود بوعد إلهي، وعلى الرغم من سذاجة هذه الأوهام وعدم دقتها العلمية والدينية إلا أنها تتحول إلى حقائق عنده على أن تناقشها. إنه يجرك إلى منطقته المعتمة، إنه عمليا يجرك إلى لا وعيه، إلى هواجسه، وعليك في هذه الحالة أن تلطف من غلوائه، وأن تستعمل أدواته أيضا. يقلقك أن الحقيقة التي يؤمن بها الإسرائيلي تأتي من فضاء مختلف ومن قاموس مختلف، ويقلقك أن يناقشك الإسرائيلي عن الواقع بوعي غير واقعي، ويقلقك أن يرى الإسرائيلي في نفسه خصما وحكما للتاريخ في آن واحد. إنه دائما متوجس من كل شيء، من كل حقيقة من كل واقعة، ومن كل وثيقة. يقلقك جدا أن تعيد شرح بديهيات انتهى العالم من نقاشها، مقلق أن تناقش إسرائيليا قد يقول لك على حين غرة لماذا تعتقد دائما أن الشمس تشرق من جهة الشرق.
في هذه الحالة عليك أن تثبت له أن الشمس كانت ولم تزل تشرق من تلك الجهة، وإذا كنت حسن الحظ دائما، فقد يقتنع هذا الإسرائيلي بسرعة.
والتفاوض مع الإسرائيلي مفاجئ إلى درجة الإرباك الحقيقي، فما تراه أنت بالإطار العام والصورة الكلية، يراه هو مجزأ، وبهذا يكون أقدر على رؤية التفاصيل الصغيرة والزاوية المعتمة. إن كل مفاوض فلسطيني فوجئ تماما من حجم المعلومات الدقيقة الهائلة التي يمتلكها المفاوض الإسرائيلي حول شراء الأراضي داخل الخط الأخضر، وحول تهجير المواطنين عام 1948، وحول منابع الأنهار ومصادر المياه وأحواضها، والاتفاقات السرية مع أطراف عديدة، وأكثر من هذا، فالإسرائيلي يرى نواقصنا وعيوبنا أكثر منا، وهو يتتبع سقطاتنا وأغلاطنا ويحللها ويصنفها ويخرج منها بنتائج، والمشكلة هنا أن التفاوض مع الإسرائيلي يقدم نفسه على أنه «الغربي» المتنور.
ويفاجئك أن يتبنى الإسرائيلي قضيتك، فيقول لك إنه الطرف الوحيد الذي يمنحك كيانا مستقلاً، ويفاجئك أنه يريد الانفصال عن رائحة جسدك ولكنه يريد ماءك الذي تستحم به ويفاجئك أنه يريد منك أن تؤمن بوجوده وحقه في الحياة، في اللحظة التي يقوم هو فيها بذبحك أو تجويعك أو إنكار وجودك، ويفاجئك أنه يريد دخول مناطقك الروحية «لينظفها، من أي مشاعر كره أو حقد أو رفض له، فيما يفاجئك أنه يريد تقديم صورته إليك كما يريد هو، لا كما تريد أنت ولا كما هي على أرض الواقع، ويفاجئك تنوره وليبراليته وفي ذات اللحظة يفاجئك تعصبه الأعمى الذي لا يرى إلا نفسه، ويفاجئك أنه ينسحب من مدينة رام الله ولكنه يقطع الطريق إليها، ويفاجئك الإسرائيلي دائما أنه غير واثق أبدا مما تم التوصل إليه.
والتفاوض مع الإسرائيلي مثير للسخرية والعجب، فكل مفاوض هو ملك إسرائيل و «الرائي» فيها، وعليه أن يحقق حلم الأجيال في فلسطين وإسبانيا وإيطاليا والنمسا، وبهذا الصدد فإن كل إسرائيلي الآن يعتبر أنه ينتمي إلى جماعة شديدة الذكاء، بالغة الحكمة، قامت بمعجزة القرن العشرين أو معجزة الأجيال كلها، وأن الدولة التي أقامها كانت حصيلة ألفي عام من الحنين والصبر والتضحية والتدبير، وبالتالي فإن المفاوض الإسرائيلي يأتي مثقلاً بالكثير من الأعباء الشخصية والحزبية والتاريخية، ويتنافس المفاوضون في التقصي والتحري، ويتنافسون في مناقشة تفاصيل التفاصيل، وإعادة رسم الخرائط ومناقشة المستندات، والبدء من جديد في كل مرة، ورغم وجود فروق حقيقية بين الإسرائيليين ووجهات نظرهم، إلا أنهم يتفقون في هذا الميل إلى التنافس على الدقة والتنطع فيها.
ومن السخرية هنا أن ينظر إليك الإسرائيلي على أنك لا تستطيع المتابعة ولا التركيز، وإنك إذا جعت قل انتباهك، وإذا جلست جميلة فإنك تهتز، وإذا نمت في فندق فاخر فإنك ستكون ألين جانبا، وأنه إذا فاوضك من أمرَ يوما بسجنك فستتحول تلقائياً إلى أن تكون الجانب الأضعف، وأنك إذا منحت امتيازات معينة فإنك ستكون مفاوضا سهلا.
والتفاوض مع الإسرائيلي يثير السخرية والعجب، لأنه يتحول في لحظة ما إلى حوار طرشان حقيقي، وخاصة في الحالات التي لا يريد فيها المفاوض الإسرائيلي أن يقدم شيئاً أو يقول شيئاً، هنا تتحول القاعة إلى حظيرة دجاج يقال فيها كل شيء ولا يقال شيئا، والمفاوض الإسرائيلي خبير بذلك، وهو ما يدعونه باللغة العبرية بلبول بيتسيم» أي خلط بيض، وهي ترجمة حرفية للتعبير العبري، وقد تعني بالتعبير الاصطلاحي اللعب بالخصيتين أو «طق الحنك» كما نقول بالعربية، وعندما يقوم المفاوض الإسرائيلي بذلك، فهو يعلم أن الطرف الثاني غير قادر أو أنه لا يرغب بالانسحاب من هذا الحوار لأسباب سياسية وغيرها، وبالتالي فإنه يقوم بذلك مرتاح البال والضمير.
هذا ما ورد في روايتي آخر القرن التي صدرت للمرة الأولى عن اتحاد الكتاب الفلسطينيين سنة 1999 والمرة الثانية عن دار الرعاة سنة 2014.
{ رئيس مركز الدراسات
المستقبلية بجامعة القدس
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك