يجمع «مجلس التعاون الخليجي»، و«الاتحاد الأوروبي»، العديد من المصالح المشتركة في مجالات، كالاقتصاد، والطاقة، والمناخ، والأمن، والتي تفتح آفاقا عديدة للتعاون الجاد والهادف. ومنذ إعلان الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين عام 2022، أخذت هذه العلاقات تتطور بشكل متسارع في مختلف مجالات التعاون، خاصة أنها تجمع بين ثاني أكبر الاقتصادات العالمية، كما يمثله الاتحاد الأوروبي، وثامن أكبر هذه الاقتصادات ممثلة في مجلس التعاون.
ويضم اقتصاد «الاتحاد الأوروبي»، 27 دولة أعضاء، ويبلغ ناتجه المحلي الإجمالي 16.7 تريليون يورو، وتبلغ حصته في التجارة الخارجية العالمية نحو 13.7%، ويشكل الاندماج بين أعضائه أساس وضمانة للسلام والأمن والازدهار، فيما ترجع بدايات نشأته إلى عام 1951، بالمجموعة الأوروبية للفحم والصلب التي ضمت 6 دول أعضاء، تطورت إلى خلق أكبر سوق مشتركة في العالم بمقتضى معاهدة روما 1957، حيث حرية انتقال السلع والخدمات والأشخاص ورؤوس الأموال، ثم الاتحاد بمقتضى معاهدة «ماسترخت» في مارس 1992، التي سعت إلى تحقيق التكامل السياسي والاقتصادي الأوروبي، عن طريق توحيد العملة، والسياسة الأمنية والخارجية، وتعزيز حقوق المواطنة، والتعاون في قضايا الهجرة واللجوء.
أما اقتصاد «مجلس التعاون الخليجي»، فيضم 6 دول أعضاء، ويبلغ ناتجه المحلي الإجمالي 2.4 تريليون دولار، مع توقع «البنك الدولي»، أن يصل إلى نحو 6 تريليونات دولار بحلول عام 2050، ونشأ في مايو1981. وترجع أهمية هذا التكتل الاستراتيجية، في إسهامه بنسبة 23% في الإنتاج العالمي للنفط، فيما يبلغ نصيب «السعودية»، من إجمالي الإنتاج الخليجي للنفط 57%، بمتوسط إنتاج يومي يربو على 10 ملايين برميل، تمثل نحو10% من الإنتاج العالمي، فيما تمتلك دوله أكبر احتياطي نفط في العالم يقدر بنحو 500 مليار برميل، وثاني أعلى احتياطي من الغاز الطبيعي، يقدر بنحو 43.3 تريليون متر مكعب، ما يجعلها المصدر الرئيسي والركيزة الاستراتيجية لأمان الطاقة في العالم.
وفي حين وصلت العلاقات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى مرحلة الاتحاد، فإنها بين دول مجلس التعاون الخليجي، بعد التجارة الحرة، تتجه إلى استكمال مقاومات الاتحاد الجمركي، والسوق المشتركة، وصولاً إلى وحدتها الاقتصادية في عام 2025، وبعدها العمل مباشرة على إصدار العملة الخليجية الموحدة. ومنذ نشأة مجلس التعاون، سعى إلى اقتفاء خطوات التكامل الاقتصادي الأوروبي والعمل على دعم وتطوير علاقاته مع المجموعة الأوروبية.
ويعد «الاتحاد الأوروبي»، ثاني أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي بعد الصين، ويمثل نحو 12.3% من إجمالي تجارة السلع لدول المجلس مع العالم، كما أن نسبة 7.8% من إجمالي واردات الخليج تأتي من التكتل الأوروبي؛ مما يجعل الأخير الشريك الرئيسي لها في هذا الجانب، فيما يعد رابع أكبر شريك تصدير لدول المجلس، حيث تتوجه إليه 6.9% من صادراتها. وتعكس هذه الأرقام العلاقات التجارية المهمة والمتبادلة بين الجانبين، ودورها في تحقيق النمو الاقتصادي لكل منطقة، وتوفير فرص جديدة للتعاون الاقتصادي والاستثماري.
وفي عام 1988، وقع الجانبان اتفاقية للتعاون، تهدف إلى تعزيز الاستقرار في منطقة ذات أهمية استراتيجية، وتسهيل العلاقات السياسية والاقتصادية، وتوسيع التعاون الإنمائي والفني، وزيادة التعاون في مجالات الطاقة، والصناعة، والتجارة، والخدمات، والزراعة، ومصائد الأسماك، والاستثمار، والعلوم والتكنولوجيا، والبيئة. وأنشأت الاتفاقية مجالس، وعقدت اجتماعات وزارية سنوية مشتركة بين وزراء خارجية الجانبين، والمديرين الإقليميين، ولجان تعاون مشتركة على مستوى كبار المسؤولين، وأتاحت تطوير تعاون أوثق في قضايا الطاقة، والنقل، والبحث والابتكار، والاقتصاد، فضلاً عن المشاورات السياسية المنتظمة، وأصبح للاتحاد الأوروبي، لدى دول مجلس التعاون الخليجي ثلاث بعثات دبلوماسية معتمدة (السعودية، الإمارات، والكويت).
ومع ذلك، كان التطور الأهم في مسار العلاقات بين الجانبين عام 2022، حينما اعتمدت المفوضية الأوروبية، بيانا مشتركا، بشأن «شراكة استراتيجية أوروبية مع الخليج»؛ بهدف توسيع وتعميق التعاون بين الطرفين. وبهذه المناسبة، علق الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية «جوزيف بوريل، بأنه» في ظل انعدام الأمن، ووجود تحديات كبيرة تواجه النظام الدولي، وتفاقمها بسبب الحرب الأوكرانية، سيستفيد كل من الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي من شراكة أكبر وأكثر استراتيجية؛ تشمل عددًا من المجالات الرئيسية، للعمل معًا بشكل أوثق على الاستقرار في الخليج والشرق الأوسط، والتهديدات الأمنية العالمية، وأمن الطاقة، وتغير المناخ، والتحول الأخضر، والرقمنة، والتجارة والاستثمار.
وفي ضوء هذه الشراكة الاستراتيجية، استضافت «سلطنة عُمان»، في أكتوبر 2023، الدورة الـ«27» للمجلس الوزاري المشترك بين مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي، وفيما ترأس الجانب الخليجي وزير الخارجية العُماني «بدر بن حمد البوسعيدي»، فقد ترأس الجانب الأوروبي «جوزيف بوريل»، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي، بمشاركة المفوضية الأوروبية والأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي.
وقد تناول الاجتماع تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين في قضايا الأمن والسلام، والتجارة والاستثمار، والطاقة المتجددة، والتغير المناخي، والأمن السيبراني، والهيدروجين الأخضر، وتبادل الخبرات، والتعليم، وتعظيم الاستفادة من الذكاء الاصطناعي، وتعزيز التنسيق بين الجانبين في مجال المساعدات الإنسانية، كما استعرض «المجلس الوزاري»، مسار تنفيذ برنامج للعمل المشترك (2022–2027)، الذي يرسم حقبة جديدة من التعاون بين الجانبين في مجموعة واسعة من المجالات؛ بما في ذلك الحوار السياسي، والأمن الإقليمي، ومكافحة الإرهاب، والأمن السيبراني والتجاري، والاستثمار والطاقة، وتغير المناخ، والتعليم، والبحث والابتكار، والصحة، والبيئة، والتعاون الإنساني، والتبادلات الشعبية، علاوة على ذلك، حث «المجلس الوزاري»، على تسريع وتيرة التنفيذ وتخصيص الموارد الكافية لها، ووافق على عقد حوار أمني منتظم بين الجانبين على مستوى كبار المسؤولين، ووجه كبار المسؤولين لاستكشاف إمكانية التنسيق، بشأن مبادرة الاتحاد للوجود البحري المنسق في شمال غرب المحيط الهندي، وترتيب منتدى رفيع المستوى حول الأمن والتعاون الإقليمي يُعقد في بروكسل.
وفيما اعتمد الاجتماع، توصيات الحوار الاقتصادي بين الجانبين في 2022، فقد وجه الحوارات المستقبلية لتعزيز سبل تحقيق تكامل أكثر كفاءة، وبيئات أعمال واستثمار مستدامة. وبعد أن رحب بنتائج حوار التجارة والاستثمار في الرياض في 2022، أكد الاهتمام بعلاقات تجارة واستثمار ممتدة بين الجانبين، لزيادة تحفيز التعاون التجاري، وتعزيز شروط الوصول إلى الأسواق، ودعم السياسات المحفزة للاستثمار، فيما أعرب «المجلس»، عن قلقه العميق لتطورات الأوضاع في غزة، ودعا إلى تيسير حصول سكان القطاع على ما يكفي من الغذاء، والماء، والأدوية وفقًا للقانون الإنساني الدولي، وشدد على أهمية الحل السياسي للأزمة لتجنب تكرار هذه الحلقة المفرغة من العنف وتأكيد حل الدولتين.
وتنفيذًا لنتائج هذه الدورة، قام الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي «جاسم البديوي»، في مارس 2024، بزيارة لمؤسسات الاتحاد الأوروبي، بما فيها البرلمان الأوروبي، والتقى رئيسة بعثة العلاقات مع شبه الجزيرة العربية في الاتحاد، وناقش مع الممثل الخاص للاتحاد لمنطقة الخليج، التحضيرات للمنتدى رفيع المستوى للأمن والتعاون الإقليمي بين «مجلس التعاون»، و«الاتحاد الأوروبي»، المزمع عقده في أبريل، والموضوعات التي سيتم مناقشتها خلال المنتدى، وفي مقدمتها الأوضاع في قطاع غزة.
وخلال هذا اللقاء، تم مناقشة الموضوعات ذات الصلة بالعلاقات الثنائية بين الجانبين، بما فيها مسار إعفاء مواطني مجلس التعاون من تأشيرة «شينجن»، فيما تمتلك دول الخليج ملفًا قويًا للحصول على الإعفاء. وقد اتخذت بريطانيا بالفعل هذه الخطوة، وأصبح المواطن الخليجي معفيا من تأشيرتها، وفي المقابل كانت قمة الدوحة الـ«44»، في قطر قد أقرت التأشيرة الخليجية الموحدة التي تسمح للزوار دخول الدول الست، فيما التقى «البديوي»، أيضًا اللجنة السياسية والأمنية بالاتحاد الأوروبي، بحضور رئيسة اللجنة، مع الأهمية الكبرى التي يوليها الجانبان في اتجاه التنسيق في عديد من الملفات الأمنية والتجارية والاقتصادية والسياسية.
وعليه، فإن اعتماد الشراكة الاستراتيجية بين مجلس التعاون الخليجي، والاتحاد الأوروبي، يعد تحولاً كبيرًا في سياسات الأخير، بعد إقراره أن المصالح الأوروبية قد تراجعت في عدة مناطق، وأصبح هناك اتجاه متزايد للبحث عن أسس مشتركة جديدة في العلاقات بين الدول الأوروبية ودول الشرق الأوسط خاصة الخليجية، فيما يبتعد عما كان يتسم به عمله من فرض أجندة أوروبية أحادية الجانب.
ومن المُسلم به أن التوافق العام في الرؤى ليس ضروريًا؛ لأن الهدف النهائي يبقى هدفًا مشتركًا حتى لو اختلفت أساليب الأطراف في تحقيقه، وبعد أشهر قليلة من الحرب الأوكرانية، وبالتحديد في مايو1922، أعلن الاتحاد الأوروبي عن شراكة استراتيجية مهمة مع الخليج، حيث سلطت الحرب الضوء على حاجة أوروبا الملحة، إلى إعادة صياغة نهجها في التعامل مع ملف الطاقة في الشرق الأوسط ودول الخليج، وأنه من الأهمية بمكان تجنب الاعتماد على جهات إقليمية فحسب، وبدلاً من ذلك عليها اتباع استراتيجية ترتكز على المصالح المشتركة لتحقيق السلام والاستقرار والازدهار، من خلال رؤية مستدامة وطويلة الأجل، تضمن للاتحاد الأوروبي أمن الطاقة والمناخ.
وفي المقابل، تعمل دول مجلس التعاون، على تعزيز علاقاتها في مجال الطاقة مع روسيا، وفي نفس الوقت إمكانية إقامة شراكات استراتيجية في هذا المجال مع الاتحاد الأوروبي، باعتباره سوقًا رئيسية قادرة على استيعاب كميات كبيرة من الطاقة الخضراء، ما يقلل بشكل استراتيجي أيضًا من الاعتماد على السوق الصينية. وفي هذا الإطار من المصالح المشتركة حدد الاتحاد الأوروبي ثلاثة مجالات واعدة للتعاون مع دول المجلس في مجال الطاقة: هي (كفاءة الطاقة والكهرباء، الطاقة المتجددة، اقتصاد الكربون الدائري).
على العموم، تُظهر العلاقات بين أوروبا والخليج، أهمية كبيرة في عالم متزايد التكامل الاقتصادي والسياسي، وتعتبر هذه العلاقات عاملًا أساسيًا في تعزيز الاستقرار الإقليمي، وتعزيز التجارة الدولية. وفي ضوء كونهما منطقتين ذات أهمية استراتيجية، يمكن أن يحقق التعاون بينهما فوائد متبادلة كبيرة، من خلال تعزيز الحوار، وتوسيع نطاق التعاون في مختلف المجالات بما في ذلك التجارة، والاستثمار، والتنمية المستدامة، والطاقة.
وإذا كان هذا أهم مظاهر التعاون الاقتصادي، فإنه على الصعيد السياسي تبدو أهمية التكامل والتنسيق في الملفات السياسية والأمنية، هو ما سنراه في منتدى الأمن الإقليمي في بروكسل في الأيام القادمة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك