يجْني الإنسان على نفسه كثيراً عندما يُنتج مواداً كيميائية استهلاكية ويدخلها في أسواقنا وبيئتنا من دون دراسات متكاملة وشاملة لما قد تقوم بها هذه المواد من فسادٍ عظيمٍ ومزمن لصحتنا وسلامة بيئتنا. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان المبيد الحشري السحري المعروف بالـ«دِي دِي تِي» في السبعينيات من القرن المنصرم من أكبر إنجازات الإنسان الطبية في القضاء على الأمراض كالملاريا الذي كان يقتل الملايين، ثم بعد سنوات قليله تم حظر المبيد عندما تأكد أن أضراره أكثر من منافعه، ولكن بعد سنوات تم تقنينه وحصره في تطبيقات ضيقة جداً لعدم وجود البديل المناسب. وفي التسعينيات من القرن الماضي أَنْتج الإنسان مجموعة من المركبات العضوية التي تحتوي على عنصري الكلورين والفلورين، واعْتُبرتْ مركبات «أعجوبة» دخلت في تطبيقات لا تعد ولا تحصى، ثم تبين للعلماء أنفسهم بأن هذه المركبات تنتقل إلى السماء العليا وإلى طبقة الأوزون التي تحمي الكرة الأرضية ومن عليها، فتحلل غاز الأوزون وتسمح بمرور الأشعة فوق البنفسجية القاتلة للوصول على سطح كوكبنا، فقام الإنسان نفسه بعد هذا الاكتشاف بحظر استخدامها.
واليوم نقف أمام معضلة في تقديري أشد وطأة وتنكيلاً وتأثيراً من الحالات السابقة التي ذكرتُها، وأعتَبِرهُا مشكلة العصر القادمة التي ستحير العلماء وتقلق رجال السياسة والحُكم، وهي المنتجات البلاستيكية والمخلفات الكبيرة والصغيرة الحجم التي تنتج عنها بعد التخلص منها، إضافة إلى الجسيمات البلاستيكية الدقيقة المجهرية التي تنتج عن تجزؤ وتفتت المخلفات البلاستيكية إلى جسيمات أصغر فأصغر حتى تصل إلى مستوى المايكرو والنانومتر، أي جزء من المليون وجزء من البليون في الحجم.
ولذلك أستطيعُ أن أُحدد معالم مشكلة العصر البلاستيكية القادمة في عدة قضايا وتحديات رئيسة على العالم مواجهتها وإدارتها بأسلوب مستدام وفاعل. أما القضية الأولى فتتمثل في عشرات الآلاف من المواد الكيميائية السرية غير المعروفة التي تضاف عند صناعة المنتجات البلاستيكية من أجل إعطائها اللون المطلوب، وتحسين خواصها ومميزاتها حسب نوع المُنتج. وتأتي تفاصيل هذه المعضلة الأولى في التقرير الدولي الشامل الأول المنشور في 14 مارس 2024 باسم تقرير «بلاست كيم» (PlastChem) تحت عنوان: «أَحدثْ ما توصل إليه العلم في مجال المواد الكيميائية البلاستيكية». فقد أفاد التقرير بأن هناك أكثر من 16 ألفا من المضافات التي لا يعلم الإنسان عنها الكثير من حيث تركيبها الكيميائي، ولم يقم بتقييمها بشكلٍ تفصيلي معمق، ولم يجر دراسات مستفيضة حول هويتها، وخصائصها الكيميائية والفيزيائية والحيوية، علاوة على سميتها وتأثيرها وأضرارها والمخاطر التي تنجم عنها على الإنسان والحياة الفطرية ومكونات بيئتنا. وهذه المواد الكيميائية التي تضاف إلى البلاستيك تترشح من المخلفات البلاستيكية عند تعرضها للمتغيرات المناخية من الضوء والحرارة وغيرهما، فتنتقل إلى مكونات بيئتنا المختلفة والحياة الفطرية التي تعيش فيها وتتراكم في أعضائها، ثم عبر السلسلة الغذائية بشكل مباشر أو غير مباشر تصل إلى الإنسان، ولا يعلم أحد عن عواقبها الصحية على البشر والأمراض والعلل الغامضة والغريبة المزمنة التي سيتعرض لها الإنسان بعد سنوات. ولذلك على الجهات الدولية والقومية المختصة إلزام الشركات المصنعة للبلاستيك والمنتجات البلاستيكية بتقديم قائمة بتركيز ونوعية جميع المواد الكيميائية التي تضاف إلى البلاستيك، إضافة إلى حثها على إجراء الدراسات اللازمة من ناحية قابلية هذه المواد على التحلل من جهة، وقدرتها على التراكم في البيئة من جهة أخرى، إضافة إلى معرفة سلامتها وأمنها على الإنسان ومكونات بيئته والحياة الفطرية قبل إضافتها إلى المنتجات البلاستيكية وتقديمها إلى الأسواق.
والقضية الثانية التي تحدد معالم مشكلة العصر البلاستيكية فهي تكمن في البلاستيك نفسه. فالبلاستيك عبارة عن مواد «متبلمرة» ذات الوزن الجزيئي الكبير جداً (Polymers)، وتحتوي على خليطٍ كبير من المواد العضوية التي بها عناصر مختلفة كالكلورين، والفلورين، والبرومين وغيرها الكثير. وهذه المركبات المتبلمرة البلاستيكية لها خاصية سلبية بالنسبة إلى سلامة البيئة وصحة الإنسان والحياة الفطرية، فهي عندما تنتقل إلى مكونات البيئة لا تتحلل كلياً، وإنما تتفتت وتتكسر وتتجزأ كيميائياً وفيزيائياً وحيوياً إلى أجزاء أصغر، حتى تصل في حجمها إلى جسيمات بلاستيكية دقيقة جداً، وقد لا تُرى بالعين المجردة، ولها القدرة على التحرك والانتقال إلى جسم الإنسان عن طريق الأنف أو الجلد من الهواء الجوي، أو الفم من خلال استهلاك مواد غذائية أو مشروبات تحتوي على هذه الجسيمات المجهرية، وهي بدورها تنتقل إلى الرئتين فتتراكم فيهما، أو تنتقل إلى مجرى الدم وتدخل في خلايا الجسم وباقي الأعضاء، فتتراكم فيها مع الوقت ويزيد تركيزها يوماً بعد يوم.
وهنا على الإنسان أن يتعامل مع صنفين كبيرين من المخلفات، الأول هو المخلفات الكبيرة الحجم التي نراها بالعين المجردة في سواحل ووسط البحر، وفي الأعماق في تربة قاع البحر، وفي الصحاري، وعلى الأشجار، وفي مواقع دفن المخلفات البلدية الصلبة، والثاني وهو الأخطر الذي يهدد سراً حياة الحياة الفطرية والإنسان وهو المخلفات المايكروبلاستيكية والنانوبلاستيكية غير المرئية. أما الصنف الأول، وبالتحديد في البيئات البحرية، فقد تكونت مواقع ضخمة معروفة وتمت دراستها بالتفصيل، وبخاصة في المحيط الهادئ، وتغطي عشرات الآلاف من الكيلومترات المربعة وتحمل في بطنها هذه المخلفات مثل منطقة(Great Pacific Garbage Patch). وهذه المخلفات البلاستيكية تكون إما طافية فوق سطح الماء، وإما عالقة في عمود الماء، وإما جاثمة على سطح التربة القاعية أو بداخلها. كما أكدت دراسة منشورة في 23 فبراير 2024 في مجلة «علوم وتقنية البيئة» تحت عنوان: «مواقع مهمة للجسيمات البلاستيكية الطافية في شمال المحيط الهادئ»، بأن هذه المخلفات توسعت دائرة انتشارها حتى وصلت إلى مناطق نائية ومحمية من المحيط الهادئ. وهذه الدراسة أخذت عينات من المخلفات البلاستيكية والمايكروبلاستيكية السطحية (حجمها أكبر من 330 مايكرومتر) التي تسرح وتمرح فوق سطح الماء من أحد هذه المحميات بالقرب من هاواي، حيث أفادت بأن تركيزها وصل إلى 285200 قطعة لكل كيلومتر مربع. والصنف الثاني من المخلفات البلاستيكية فهي الجسيمات الدقيقة والمجهرية، وهي التي ستشكل التهديد الأكبر للبشرية جمعاء، وستكون محل بحث تفصيلي واسع النطاق في المستقبل من العلماء من تخصصات مختلفة، وبخاصة من ناحية التعرف على تأثيراتها الصحية عندما تدخل في أعضاء جسم الإنسان، والأسقام والعلل المستقبلية التي ستسببها للبشرية.
وأما القضية الثالثة التي تحدد معالم مشكلة العصر البلاستيكية فهي تصنيع منتجات بلاستيكية مستدامة وسليمة بيئياً وآمنة صحياً للإنسان، بحيث تأخذ في الاعتبار «دورة حياة البلاستيك» وأداة التصميم البيئي منذ الخطوة الأولى، وتتميز بعدة خصائص بيئية وصحية سليمة، منها أنها تكون قابلة للتحلل الحيوي عندما تُصرف في البيئة، وأن تكون سهلة التدوير وإعادة الاستعمال، وأن تكون المواد المضافة آمنة وسليمة للإنسان والحياة الفطرية. كذلك يتم تقنين وتنظيم كل هذه المضافات من خلال آلية وأداة دولية كمعاهدة الأمم المتحدة حول التلوث العالمي بالبلاستيك. فهذه المشكلة الدولية التي بدأت خيوطها تنكشف يوماً بعد يوم، وبدأت معالمها تتضح شيئاً فشيئاً، ستكون هي التحدي الأكبر من بين المشكلات البيئية الصحية التي واجهها الإنسان من قبل، فنحن سنتعامل مع منتج واسع الانتشار ولا يمكن التخلي عنه، ونتعامل مع مخلفات صلبة بلاستيكية ثابتة ومستقرة ولا تتحلل وتفشت في كل مكونات بيئتنا والحياة الفطرية، ثم سنتعامل مع التهديد الصحي الأكبر وهو مخلفات مايكروبلاستيكية مجهرية لا يمكن مشاهدتها أمامنا بالعين المجردة، ولا يمكن رؤيتها في عناصر بيئتنا، وهي أخذت منذ سنوات تزحف رويداً رويدا إلى شرايين أجسامنا، وتغزو كل عضو، وكل خلية من خلايانا، وأخيراً سنقف أمام أمراض مستعصية على العلاج وفريدة من نوعها قد نجمت بسبب تراكم وارتفاع تركيز هذه الجسيمات البلاستيكية الدقيقة في أعضائنا.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك