من ملامح العالمية في الرسالة الإسلامية توجهها في الخطاب إلى لغة العموم، ثم تحولها من لغة العموم إلى لغة الخصوص إذًا اقتنع الإنسان، وآمن بالدعوة، وصار من أهلها، وصار يعرف بأنه مسلم، وأن انتماءه إلى الإسلام صار لازمًا أن يتوجه الخطاب إليه بصفة الخصوص، وهي قول الحق سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ًلعلكم تتقون) سورة البقرة / 183.
إنه خطاب التكليف الصريح، ولا مجال للتردد في قبوله والانصياع إلى أمره ونهيه.
إذًا، فقد اجتمعت في الإسلام لغة العموم ولغة الخصوص، وهذا سر عالميته، ولقد قرر الحق سبحانه وتعالى، ومنذ بدء تنزل القرآن الكريم على رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم)، وذلك حين أنزل الله تعالى وحيه المبارك على صفوة خلقه، وخاتم أنبيائه محمد (صلوات ربي وسلامه عليه) في قوله سبحانه: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) سورة البقرة / 185.
إذًا، فحين نزل القرآن الكريم كان في البدء خطابًا للعموم بدليل استخدامه لفظة « الناس»، وهي كما هي معروف لفظة من ألفاظ العموم، وهذا يفيد العالمية للدعوة الإسلامية، ثم بعد ذلك من الناس من يؤمن بالإسلام، فيتحول الخطاب إليه من لغة العموم إلى لًغة الخصوص، وصار ضمن جماعة المؤمنين المعنيين بخطاب التكليف، وكان الصحابة رضوان الله تعالى عنهم حين ينزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا..) يلقون إليه سمعهم ووعيهم، فإمَّا أمر بطاعة، وإما نهي عن معصية.
وهناك من ألفاظ الخصوص ما يحمل معنى العموم من مثل قوله تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه) (سورة الانشقاق / 6) أيضًا مثل قوله سبحانه: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) سورة الانفطار / 6.
الإنسان في الآيتين رغم أن الخطاب فيهما يحمل معنى الخصوص إلا أنه متضمن أيضًا معنى العموم، وهذا ملمح من ملامح عالمية الدعوة الإسلامية، التي ينتقل فيها الإنسان من العموم إلى الخصوص، وبالعكس.
وكما أن بداية تنزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جاء عن طريق لفظ العموم حين دلت الآيات التي بدأت خطابها بلفظة «الناس»، فإن الإنسان حين يؤمن بهذا القرآن، وبما جاء فيه يكون لديه خطابه الخاص الذي يتحقق من خلاله لغة التكليف، ويصبح في عداد المؤمنين الذين يتوجه إليهم الخطاب الخاص، وهو خطاب التكاليف بافعل ولا تفعل، وقد جاء ذلك في بداية سورة البقرة في قوله تعالى (ألم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2)) سورة البقرة.
إذًا، فهؤلاء الذين صاروا متقين ولهم خطابهم الخاص الذي يتضمن الالتزام بأداء التكاليف الشرعية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يكن حالهم هكذا على الدوام، بل كانوا في بداية عهدهم بالقرآن مشركين حتى مَنَّ الله تعالى عليهم بالهداية، وأعلنوا ولاءهم للإسلام، وأخذوا يترقون في الإسلام حتى بلغوا مرتبة التقوى، فتوجه إليهم خطاب التكليف.
الملاحظ أن كل خطاب سواء كان خطابًا للعموم عند الخطاب بيا أيها الناس، أو يا بني آدم، أو يا أيها الإنسان، وكذلك لفظ الخصوص بـ«يا أيها المؤمنون..»، فإن وراء كل خطاب ما ينبئ عن الغاية من ورائه التي يدعو إليها الداعية، وإليكم بعض الأدلة على ذلك، يقول تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثلُ فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب) سورة الحج / 73.
القضية التي تدعو إليها الآية الكريمة هي وجود اللًه سبحانه وتعالى، ووحدانيته جل جلاله، وهذه دعوة عامَّة يشترك فيها جميع الناس، وهم بإزائها على صنفين إما عاقل رشيد يتتبع المقدمات لتقوده إلى النتيجة التي يسعى إلى التعرف عليها، والله تعالى في هذه الآية يتحاكم سبحانه إلى العقل في تمام رشده أو قريبًا من هذا الرشد، وهو يرتضي حكمه ويطمئن إلى رشده، أما إذًا أساء الاختيار، وضَلَّ سواء السبيل، وهو حُرٌ في اختياره، وهذا هو الصنف الثاني، وسوف يحاسب على مقتضى هذا الاختيار.
ومن القضايا العامة التي يتوجه إليها الخطاب العام، وتنبئ عن الغاية المبتغاة، والنتيجة المرجوة قول الحق سبحانه وتعالى: (يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) سورة الحجرات / 13). إن الآية الكريمة تشير في وضوح تام إلى أن القاسم المشترك بين الناس جميعًا أنهم خلقوا من ذكر وأنثى، وحري بمن كان هذا مبدؤه أن يؤوب إلى الاتفاق والتعارف، وتجاوز الخلافات، والحرص على ما يجمع لا على ما يفرق، ومن كانت هذه حاله، وذاك مصيره فلا ينبغي أن يتعالى أو يتكبر على أخيه في الإنسانية، والله تعالى من عظيم عدله، وكمال قسطه لم يحرمْ الناس من عطاء الربوبية، قال تعالى (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) (سورة البقرة / 21).
أَمَّا عطاء الألوهية، فهو خاص بالمؤمنين، ولا يناله من أشرك بالله تعالى ما لم ينزل به سلطانا.
إذًا، فالقرآن العظيم له خطاب عام يشترك فيه جميع الناس، وله خطاب خاص لا ينال شرفه إلا من آمن بالله ربًا لا شريك له سبحانه، وهذا واضح شديد الوضوح في قوله سبحانه: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) سورة الأعراف / 158.
هذا خطاب عام جدًا اجتمعت له أساليب العموم من كل وجه من أوجه العموم، وتبدأ هذه الأساليب بلفظ: «الناس»، وجاء التأكيد عليه بـ إِنَّ» وأيضًا جاءت كلمة «جميعًا» لتنضم إلى أخواتها من الألفاظ العامة لتؤكد عالمية الرسالة الإسلامية التي ختم الله تعالى بها الرسالات السماوية، في قوله تعالى: (.. اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا..) (سورة المائدة / 3).
إذًا، فكمال الدين، وتمام النعمة تشيران لا محالة إلى عالمية الرسالة الإسلامية، وهذا ما أكدته الآية الكريمة في قوله سبحانه وتعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) صدق الله العظيم (سورة التوبة / 33).
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك