في السنوات الأخيرة، حظيت الجهود التي تبذلها دول الخليج؛ لتوسيع علاقاتها الاقتصادية، والسياسية، والثقافية مع بقية العالم؛ باعتراف المؤسسات والمنظمات العالمية. وبالإضافة إلى تبنيها دور الوساطة الدبلوماسية في الصراعات المستمرة بالشرق الأوسط، وأوروبا، وإفريقيا، عززت «السعودية»، و«الإمارات»، و«قطر»، و«الكويت»، و«البحرين»، و«سلطنة عمان»، حضورها الدولي عبر صياغة علاقات تجارية جديدة وزيادة الاستثمارات الخارجية، من خلال تنمية صناعات السياحة المحلية بشكل كبير. وأوضح «منتدى الخليج الدولي»، أن «الاستثمارات الكبيرة في الرياضة، وزيادة البرامج الفنية، والثقافية؛ قد عززت استخدام «القوة الناعمة»، باعتبارها «جزءًا أصيلًا من استراتيجياتها الوطنية الشاملة».
وينعكس نجاح هذا النهج في العلاقات الدولية، من خلال «مؤشر القوة الناعمة العالمي لعام 2024»، الصادر عن مؤسسة «براند فاينانس»، والذي يوضح تعاظم الدور الذي تلعبه هذه الدول في الشؤون الاقتصادية، والثقافية، والدبلوماسية، والسياسية العالمية.
وعلى عكس «القوة الصارمة»، التي تشير إلى التهديد بالقوة المسلحة، أو استخدامها لإحداث تغيير لصالح المصلحة القومية، والاعتماد على الهيمنة المالية؛ أشار السياسي الأمريكي «جوزيف ناي»، في كتابه «مستقبل القوة»، كيف أن «القوة الناعمة» لأي دولة هي مستمدة من «جاذبيتها الثقافية»، و«قيمها السياسية»، و«مزايا سياساتها الخارجية»، مع المزج الناجح بين هذه الديناميكيات، ما يجعلها أكثر قدرة على «الاستمالة، وليس إكراه» الآخرين على التصرف بما يتوافق مع مصالحها. وعليه، يرى «ديفيد هاي»، من المؤشر، أن إبراز القوة الناعمة يوفر «القدرة الأكبر لسد الخلافات، وبناء مساحة اتفاق»، مع تمتعها بقدرة على «تهدئة الصراع، وصياغة اتفاقيات سلام دائمة».
وتعتمد «براند فاينانس»، على منهجية القوة الناعمة النسبية لأي دولة، بناء على ثماني ركائز محددة؛ هي (ركائز الأعمال والتجارة، علاقات دولية، التعليم والعلوم، الثقافة والتراث، الحكم، الوسائط والاتصالات، الاستدامة، والقيم الوطنية)، فكلما ارتفعت مكانة الدولة في كل فئة، تَوافر لها قدرة أكبر على جذب الاستثمار، وتشجيع السياحة، وأصبح الناس أكثر تطلعا للعيش، والعمل بها.
من جانبه، أوضح «بول تيمبورال»، من «جامعة أكسفورد»، أن القوة الناعمة «ثابتة»، على الرغم من العديد من الأحداث المضطربة التي أثرت في العالم طيلة السنوات الماضية، والتي كان من الممكن أن تغير الطريقة التي يرى العالم بها بعض الدول، إلا أنها ظلت «مستقرة»، وهو الأمر الذي اعتبره نتيجة محتملة لـ «التصورات الراسخة» للدول. وعليه، فإن السمعة التاريخية للدولة، وكيفية تصرفها جيوسياسيًّا على المسرح العالمي لها تأثير كبير في مكانتها العالمية.
ويتم إصدار «مؤشر القوة الناعمة» العالمي منذ عام 2020، ويتضمن إصداره للعام الحالي، 193 دولة بعد استطلاع آراء أكثر من 170.000 شخص حول العالم، وتم تصنيف جميع دول الخليج، ضمن أفضل 51 دولة في العالم، ولم تصنف «الإمارات»، كأول دولة خليجية فحسب، بل كأول دولة في الشرق الأوسط، حيث احتلت المركز العاشر عالميًا بنتيجة (59.7/100)، بزيادة قدرها 4.5 نقاط عن عام 2023، تلتها «السعودية»، الـ«18» عالميا، بنتيجة (56/100)، بزيادة 4.7 نقاط عن العام السابق، و«البحرين»، الـ«51»، بنتيجة (40/100)، وهي نفس نتيجة عام 2023. وعبر مقاييس «براند فاينانس»، لأفضل دولة إقليمية للاستثمار، وشراء المنتجات والخدمات، والعمل، والدراسة، والزيارة؛ احتلت «الإمارات»، المركز الأول في كل فئة.
ويشير معدو «المؤشر»، إلى أن «الاقتصاد القوي والمستقر»، هو السبب وراء منح «الإمارات»، أفضل النقاط التي أُحرزت بالنسبة إلى فئة القوة الاقتصادية الناعمة؛ مما يجعلها الرائدة عالميًا في هذا الصدد، بجانب القوى الاقتصادية العظمى، مثل «الولايات المتحدة»، و«الصين». وتنعكس هذه القوة الاقتصادية أيضًا في قائمة مجلة «يو إس نيوز آند وورد ريبورت»، للدول الأكثر تأثيرا اقتصاديا، حيث تضعها في «المرتبة الخامسة»، عالميا، متقدمة على ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وروسيا.
علاوة على ذلك، ينعكس التقدم الذي أحرزته دول الخليج في تعزيز نفوذها الاقتصادي، والسياسي، والثقافي، عبر جميع أنحاء العالم في مؤشر «القوة الناعمة». وأشار «كونراد جاجودزينسكي، من «براند فاينانس»، إلى تحقيق «الإمارات»، و«السعودية»، «أكبر الدرجات»، مقارنة بأي دولة أخرى عبر الإصدارات الخمسة الأخيرة للمؤشر. ومنذ عام 2020، ارتفعت «أبو ظبي»، بمقدار 13.8 نقطة، و«الرياض»، بمقدار 14.1 نقطة، وهو ما ساعد الدولة الخليجية على الصعود في مرتبتها عشرة مراكز بالمؤشر للعام الحالي.
وخلال الفترة التي يغطيها المؤشر، استضافت «الإمارات»، مؤتمر «الأمم المتحدة»، للتغير المناخي 2023 «كوب 28» بحضور أكثر من 85000 مشارك، و150 رئيس دولة، واستضافت «قطر»، أول بطولة كأس عالم لكرة القدم في الشرق الأوسط عام 2022، والتي استقطبت اهتمامًا كبيرًا من 3.4 ملايين متفرج، وشاهدها ما يقرب من 5 مليارات شخص حول العالم، وطورت «السعودية»، قطاع السياحة؛ لجذب أكثر من 100 مليون زائر في عام 2023، كجزء من «رؤية الرياض2030»، لتنويع اقتصاد البلاد. ومع استشهاده بهذه الأمثلة، أشاد «تيمبورال»، بدول الخليج، وقدرتها «على زيادة قوتها الناعمة بوتيرة متسارعة»، من خلال استخدام «استراتيجيات قوية ومستدامة»، حيث إنه عند النظر لـ«تزايد تأثير هذه الدول عالميا؛ فإن القوى المتوسطة الأخرى الراغبة في توسيع أدوارها، «يمكن أن تحذو حذوها».
وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كانت «الإمارات»، و«السعودية»، و«قطر»، والبحرين هي الدول الأربع التي حصلت على أعلى المراكز، تليها «تركيا»، الـ«25»، بنتيجة (53.7/100)، و«مصر»، الـ«39» بنتيجة (44.9/100)، و«المغرب»، الـ«50»، بنتيجة (40.6/100)، و«الأردن»، الـ«63»، بنفس النتيجة، و«الجزائر»، الـ«73»، بنتيجة (36.8/100)، و«تونس» الـ«77»، بنتيجة (36.6/100)، و«لبنان» الـ«91»، و«العراق»، الـ«99»، و«السودان»، الـ 124، وسوريا الـ 129، وليبيا الـ 139، واليمن الـ 149.
أما بالنسبة إلى قضايا التعليم، والسعادة، والإنتاجية الاقتصادية؛ فقد سجلت الدول الغربية «درجات عالية» جدا، مقارنة بدول أخرى في إفريقيا، وآسيا، وأمريكا الجنوبية. واحتلت «الولايات المتحدة»، المراكز الستة الأولى، بنتيجة (78.8/100)؛ و«المملكة المتحدة» (71.8)، و«الصين» (71.2)، و«اليابان» (70.6)، و«ألمانيا»، (69.8)، و«فرنسا»، (67.3). فيما احتلت «روسيا»، المرتبة الـ16، و«الهند»، الـ29، حيث جاءت «نيودلهي»، بعد كل من النرويج، والدنمارك، وبلجيكا، وسنغافورة، وفنلندا، ونيوزيلندا، وجمهورية أيرلندا، في قدرتها على استعراض قوتها الناعمة.
وفيما يتعلق بالدول التي تعتبرها «براند فاينانس»، رائدة في مجال «تقييم العلامات التجارية المستقلَّة»، عالميا، جاءت «سويسرا»، كأفضل بلد للعمل والاستثمار، و«إيطاليا»، كـ«أفضل البلدان للزيارة» – بسبب مزيج من التراث الثقافي، والتنوع الجغرافي – وهو ما يوضح أسباب وصول عدد زوارها إلى 68 مليون شخص في عام 2023. ومع اشتهار «المملكة المتحدة»، بمؤسسات التعليم العالي، مثل جامعات «أكسفورد»، و«كامبريدج»، فإنه على الرغم من أن درجة مؤشر القوة الناعمة في «لندن»، ارتفعت بنسبة 4.5% العام الحالي، إلا أن إجمالي «قيمة علاماتها التجارية لشركاتها»، قد انخفضت بنسبة 15.8% في العام الماضي، بسبب معاناة اقتصادها من ارتفاع أسعار الفائدة، وتعسر التجارة، والحواجز المفروضة مع الاتحاد الأوروبي، وانخفاض الإنفاق الاستهلاكي.
على العموم، في المسار الحالي لتصنيفات «القوة الناعمة»، التي تصدرها «براند فاينانس»، من المتوقع أن تكون دول الخليج، على قدم المساواة مع القوى الاقتصادية والثقافية والدبلوماسية الأوروبية، مثل ألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا في السنوات المقبلة، خاصة أن الاستثمارات التي تم ضخها في السياحة، والرياضة، والثقافة، بدأت تؤتي ثمارها بالفعل. ومع التأثير الاقتصادي طويل المدى -باعتراف المنظمات الدولية – فمن المتوقع أن يستمر تقدم دول الخليج نحو مزيد من التطورات الإيجابية عالميًّا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك