وباء صحي بدأ في الانتشار رويداً رويداً في المجتمعات البشرية جمعاء منذ الأربعة عقود الماضية، وأخذ يتفاقم وتتسع دائرة تفشيه سنة بعد سنة من دولة إلى أخرى. فبعد أن كان الوباء بشكلٍ عام واقعاً مشهوداً فقط في الدول الصناعية الغنية، ومقتصراً على الأثرياء ذوي الدخول العالية، ومتمركزاً في المجتمعات المتقدمة ذات نمط الحياة الغربية، انتقلت عدوى الوباء حتى إلى الدول النامية الضعيفة، والمجتمعات البشرية الفقيرة، كما أن عدوى هذا الوباء بلغت اليوم صغار السن من الأطفال والمراهقين، كما أصابت من قبلِ عقود الكبار في العمر والبالغين.
فهذا الوباء المتمثل في السمنة، والبدانة المفرطة، والوزن الزائد أصبح الآن من مظاهر التحضر والمدنية الحديثة، ويعكس نمط الحياة الغربية الاستهلاكية غير الصحية في الدول والمجتمعات الموبوءة بهذا المرض العصري المزمن.
فالمصابون الآن بهذا المرض والذين يعانون من وطأته الشديدة على أمنهم الصحي تجاوزوا المليار مريض في كل دول العالم دون استثناء، الغنية والفقيرة، والمتقدمة والنامية على حدٍ سواء، وهذه الأعداد أخذت في التزايد والارتفاع بشكلٍ مطرد منذ التسعينيات من القرن المنصرم. وقد تنبهت دراسة علمية إلى سرعة تفشي هذا الوباء على المستوى الدولي، فدقت جرس الإنذار وناقوس الخطر محذرة من التهديدات الصحية الخطيرة الناجمة عن هذا الوباء على الفرد والمجتمع على حدٍ سواء، حيث نُشرت تفاصيل هذه الدراسة الدولية في 29 فبراير 2024 تزامناً مع «يوم البدانة العالمي» في مجلة «اللانست» (The Lancet) الطبية المرموقة، تحت عنوان: «الاتجاهات الدولية في حالات نقص الوزن والسمنة من عام 1990 إلى عام 2022: تحليل مجمع لـ 3663 دراسة ممثلة للسكان مع 222 مليون طفل ومراهق وبالغ». وقد شملت الدراسة 200 دولة من كل القارات ومن كل المستويات المعيشية والدخل القومي، وشارك فيها 222 مليونا من الأطفال المراهقين (العمر من 5 إلى 19 عاماً)، والبالغين الكبار في السن الذين تتراوح أعمارهم بين 20 وأكبر من 20 عاماً.
وقد توصلت الدراسة إلى عدة استنتاجات عامة ومهمة، كما يلي:
أولاً: هناك أكثر من مليار إنسان سقط في فخ البدانة، أي أن واحداً من بين 8 من البشر الذين يعيشون على كوكبنا يعانون من داء البدانة والوزن المفرط.
ثانياً: السمنة في ازدياد مع الوقت، فإجمالي عدد المصابين في 1990 بلغ 226 مليوناً، مقارنة بـأكثر من مليار في عام 2022، ونسبة البدانة تضاعفت مرتين بين البالغين الكبار خلال 32 عاماً، أي منذ عام 1990 حتى 2022، ولكنها تضاعفت أربع مرات بين الأطفال والمراهقين، مما يعني تهديد المجتمعات بأكملها، وتعريضها للأمراض المرتبطة بزيادة الوزن مثل السكري من النوع الثاني، وأمراض القلب والعظام، وارتفاع ضغط الدم.
ثالثاً: نسبة الزيادة في السمنة خلال فترة الدراسة شملت الذكور والإناث، حيث زادت بين الذكور الرجال من 4.8 إلى 14%، وبين الإناث النساء من 8.8 إلى 18.5%، في حين أن النسبة بين الأطفال الإناث زادت من 1.7 في عام 1990 إلى 6.9% في 2022، وبين الأطفال الذكور ارتفع من 2.1 إلى 9.3%.
فهناك الآن اهتمام دولي مشترك بظاهرة البدانة المنتشرة بين البشر، والتي تعيق وتعرقل تحقيق الدول للتنمية البشرية المستدامة، والتنمية المستدامة في جميع القطاعات. وبناءً عليه فقد وضعتْ الأمم المتحدة مكافحة هذا الوباء ضمن الأهداف السبعة عشر لعام 2015 المعنية بتحقيق التنمية المستدامة كجزء من جدول أعمال التنمية المستدامة لعام 2030. فقد جاء في الهدف الثاني لمؤشرات تحقيق التنمية المستدامة تحت عنوان: «القضاء على الجوع»، وبالتحديد البند الثاني المعني بالنظام الغذائي الصحي والمستدام وبإنهاء جميع أشكال سوء التغذية حول العالم، سواء سوء التغذية المؤدي إلى نقص الوزن، أو سوء التغذية المؤدي إلى زيادة الوزن والبدانة، أي أن هذا الهدف الدولي يسعى لمحاربة التطرف والإفراط في الوزن، زيادة أو انخفاضاً، وكأنه يدعو إلى تبني المنهج الإسلامي المبني على الاعتدال والوسطية في جميع مناحي الحياة.
وقد حددت الدراسات المنشورة العوامل المسببة للبدانة والمؤدية مع الوقت إلى زيادة الوزن، منها عوامل وراثية، أي الجينات التي يحملها الإنسان، ومنها الأسباب المكتسبة التي للإنسان دور في تجنبها والتخلص منها. فنمط حياة الإنسان، وعاداته وممارساته اليومية له دور فاعل في السقوط في وباء السمنة، كنوعية وكمية الغذاء التي يتناولها الفرد كل يوم، من ناحية ارتفاع نسبة السكريات، وانخفاض استهلاك الفواكه والخضروات والألياف والفيتامينات، إضافة إلى كثرة تناول الأغذية المعالجة صناعياً. كذلك من الأسباب المسببة لزيادة الوزن عدم ممارسة أي نوع من أنواع الرياضة البدنية، وتناول الكحوليات والتدخين بجميع أنواعه التقليدية والإلكترونية.
وهناك عامل جديد بدأ العلماء في سبر غوره في علاقته بزيادة الوزن، وهو التعرض للملوثات، سواء عن طريق الأنف من الهواء الجوي، أو عن طريق الامتصاص الجلدي ودخوله في الدورة الدموية، أو عن طريق الفم ودخوله في الجهاز الهضمي. وقد أجمعتْ هذه الدراسات على أن هناك علاقة بين التعرض للملوثات من مصادرها التي لا تعد ولا تحصى ومخاطر الإصابة بوباء البدانة وزيادة الوزن، سواء عند الأطفال والمراهقين، أو كبار السن. أما كيفية عمل هذه الملوثات في زيادة وزن الإنسان الذي يتعرض لها، فهي حتى الآن في مهدها وفي طور النظريات والتفسيرات العلمية التي لا يوجد عليها إجماع. ومن هذه النظريات «السمنة البيئية» (environmental obesogen)، أي أن بعض الملوثات مثل الدخان أو الجسيمات الدقيقة، ومركب بسفينول أ(Bisphenol A) وغيرهما، يسبب خللاً في توازن الميكروبات في المعدة، أو أنه يؤثر على النظام الميكروبي(microbiota misbalance)، مما ينجم عنه مع الوقت زيادة الوزن والسمنة، بحسب الدراسة المنشورة في مجلة «الجمعية الأمريكية لعلم الأحياء الدقيقة» «mSystems» في 1 مارس 2024 حول تأثير التعرض لمركب بسفينول أ على ميكروبات المعدة وبدانة الأطفال.
وهذا العامل البيئي المتعلق بالتلوث سيفرض نفسه كسبب رئيس من أسباب الوقوع في كثير من الأمراض المزمنة والحادة، كالسرطان، وأمراض القلب والجهاز التنفسي، وأمراض العين، والخرف المبكر، والسكري من النوع الثاني، وأخيراً وليس آخراً البدانة وزيادة الوزن، مما يؤكد ضرورة وضع العامل البيئي ضمن العوامل الرئيسة المسببة للأمراض والموت المبكر للإنسان، والعمل على منع التلوث وخفض انبعاثه من مصادره المختلفة في البيئات الخارجية والداخلية.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك