تاريخيًّا، كانت الاختلافات في الرؤى السياسية بين الأجيال في الدول الغربية تمثل جزءًا أساسيًا من النقاش العام. وفي المملكة المتحدة، رأى المركز الوطني للبحوث الاجتماعية، أن العمر أصبح يشكل أكبر الانقسامات الديموغرافية في السياسة البريطانية. وتتجلى هذه الديناميكية في أمريكا الشمالية وأوروبا أيضا، ففي الانتخابات الوطنية يفضل الناخبون الأصغر سنًا، دعم الأحزاب اليسارية والقضايا الاجتماعية، بينما يميل الأكبر سنًا إلى دعم الأحزاب المحافظة.
وتنعكس المواقف تجاه القضايا الداخلية، مثل الإنفاق الحكومي، والرعاية الصحية، والإصلاح الاجتماعي، وحماية البيئة على مجال السياسة الخارجية. ففي الولايات المتحدة، أكد استطلاع للرأي أجراه مجلس شيكاغو للشؤون العالمية، أن أجيالا مختلفة من الأمريكيين لديهم تصورات متناقضة حول دور بلادهم في العالم.
وفيما يتعلق بمواقف المواطنين الغربيين تجاه الشرق الأوسط -لا سيما الحرب الإسرائيلية المستمرة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة- تشير البيانات إلى أن كبار السن يظهرون ميلًا نحو دعم إسرائيل، بينما يتعاطف الشباب أكثر مع الفلسطينيين، ومن ثمّ، اعترضوا على سياسات حكوماتهم تجاه الوضع الإنساني في غزة من خلال تنظيم المظاهرات الحاشدة. ومع اقتراب انتخابات مهمة في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي، خلال عام 2024، رأت إيمي ماكينون، في مجلة فورين بوليسي، أن الحرب الحالية قد تلعب دورًا في نتائج هذه الانتخابات.
وهناك عنصر آخر مهم يتجلى عند تحليل استطلاعات الرأي بين المواطنين الغربيين حيال قضايا السياسة الخارجية، وهو مستوى الجهل الشديد، أو اللامبالاة المتعمدة تجاه ما يجري على الصعيدين الدولي والإنساني. وعلى الرغم من تلقي الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، تغطية إعلامية، وتكرار الإدانات من المنظمات الحقوقية، والحكومات والمحللين، إلا أن العديد من الأشخاص في الغرب يجدون صعوبة في فهم هذه الأحداث وتحديد أهميتها. ووفقًا لما ذكرته لمى الباز، من مجلس شيكاغو للشؤون العالمية، فإن أحدث استطلاع للرأي بين الأمريكيين؛ أظهر أن هناك اختلافات في وجهات النظر بين الأفراد، الذين ينتمون إلى الجيل الصامت (الذين ولدوا قبل عام 1945)، والجيل الذي يليهم (من مواليد عام 1996)، بشأن دور الولايات المتحدة في العالم.
ومن حيث التوزيع العمري للسكان، فإن 72% من الأشخاص (الذين وُلدوا قبل عام 1945)، و65% من الذين (وُلدوا قبل عام 1964)، و55% من الذين (وُلدوا قبل عام 1980)، يرون أمريكا هي أعظم دولة في العالم. في المقابل، يعتقد 59% من الأشخاص الذين (وُلدوا بين عامي 1980 و1997)، و65% من الذين (وُلدوا بعد عام 1997)، أن بلادهم ليست الأعظم. وفي حين أن 64% من الأمريكيين الذين (ولدوا قبل عام1980)، يؤمنون بـالاستثناء الأمريكي؛ والاعتقاد بأن القيم والنظام السياسي والتطور التاريخي لبلادهم يميزها عن الآخرين؛ فقد رأت الباز، أن الشباب الأمريكي أقل اقتناعا بهذه الفرضية، حيث يعتقد 37% فقط من المولودين بعد عام 1980 بذلك. فيما تبين كذلك أن الشباب الأمريكي أقل تفضيلًا لوجود قواعد عسكرية أمريكية في الخارج، وأكثر رفضا لاستخدام القوات الأمريكية في السياسات الخارجية، على الرغم من التوافق العام مع كبار السن، بشأن أهمية مشاركة بلادهم في اتفاقيات دولية تتعلق بالتغير المناخي، والتجارة، وتقنين استخدام الذكاء الاصطناعي.
وعلى ضوء الصلة التي رسمتها الباز، بين فخر الأمريكيين الأكبر سنا بدور الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، وسياستها خلال الحرب الباردة، يتضح أن الأمريكيين الذين تجاوزوا سن الأربعين يظهرون دعمًا أكثر للعلاقات الأمنية لبلادهم مع اليابان، وألمانيا، وكوريا الجنوبية، وتايوان.
وفيما يخص الموقف تجاه الشرق الأوسط، فإن أقل من نصف الأمريكيين -الأكبر سنًا والأصغر سنًا- يؤيدون علاقة واشنطن الأمنية مع السعودية، مع دعم الأغلبية في كلتا الفئتين لتوصل بلادهم إلى اتفاق دبلوماسي للحد من البرنامج النووي الإيراني. وفي المملكة المتحدة، أشار استطلاع للرأي أجرته وكالة سافانتا، أن الناخبين الشباب مهتمون برئاسة ثانية لدونالد ترامب، على قدم المساواة مع ما تفرضه الصين من تهديدات على أمن بريطانيا.
وتتجلى الانقسامات بين الأجيال بهذه التقييمات أيضًا في الآراء تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة. وفي الولايات المتحدة، ذكرت لورين غامبينو، في صحيفة الجارديان، أن الشباب كانوا في طليعة حركة التضامن المتنامية مع فلسطين، وقادوا الاحتجاجات في جميع أنحاء المدن، معبرين عن غضبهم من سياسات الرئيس جو بايدن،. ورأى شبلي تلحمي، من جامعة ميريلاند، أن هناك تغييرا في الطريقة التي يفكر بها الشباب حول هذه القضية، مع تضاعف عدد الديمقراطيين منهم الذي يعتقد أن بايدن، مؤيد بشكل مبالغ لإسرائيل، وهو ما يمثل أعمق تحول خلال فترة زمنية قصيرة. وفي استطلاع للرأي أجرته صحيفة نيويورك تايمز، وكلية سيينا في ديسمبر2023، سجل ما يقرب من ثلاثة أرباع الشباب الأمريكي عدم رضاهم إزاء تعامل رئيسهم مع الأزمة، حيث أكد ما يقرب من نصفهم أن إسرائيل تقتل الفلسطينيين عمدًا؛ ومن ثمّ، عارضوا توفير بلادهم الدعم العسكري والاقتصادي لها.
وفي المقابل، وجد مجلس شيكاغو للشؤون العالمية، أن أكثر من 70% من الناخبين الأمريكيين (الذين وُلدوا قبل عام 1980) يدعمون العلاقة الأمنية بين الولايات المتحدة وإسرائيل. بينما يوافق 56% فقط من الذين وُلدوا بعد هذا التاريخ على استمرار تلك العلاقة. ومن بين الناخبين الجمهوريين، أوضح تلحمي، أن الاستطلاع الذي أجرته جامعة ميريلاند، في الفترة من يناير إلى فبراير2024، وجد أن 58% يعتقدون أن إسرائيل تدافع عن مصالحها في حربها على غزة، بينما يعتقد 7% فقط أنها تجاوزت كل الحدود.
وفي المملكة المتحدة، أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة يوجوف، أن 66% من البريطانيين يعتقدون أن على إسرائيل وقف أعمالها العسكرية في غزة، وأن 44% من الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاما، تعاطفوا مع الفلسطينيين، مقابل 11% فقط انحازوا لإسرائيل. وبالمقارنة مع الذين تبلغ أعمارهم 65 عاما فما يزيد، فإن 32% منهم يؤيدون إسرائيل، و19% فقط يؤيدون الفلسطينيين. وتعكس هذه الأرقام أيضا آراء الناخبين السياسيين، حيث يدعم أنصار المحافظين، قوات الاحتلال (بنسبة 34% مقابل 12%)، ويتعاطف مؤيدو حزب العمال مع الفلسطينيين (بنسبة 47% مقابل 9%). ووجدت سافانتا للأبحاث، أن الناخبين الأصغر سنا يعتقدون -على النقيض من الفئات العمرية الأخرى- أن الحرب في غزة لابد أن تكون على رأس أولويات السياسة الخارجية البريطانية، حتى قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا ذاتها.
علاوة على ذلك، أظهر استطلاع للرأي أجرته هيئة الإذاعة العامة الألمانية، أن 61% من الألمان يعتقدون أن الهجمات الإسرائيلية المستمرة ضد الفلسطينيين في غزة غير مبررة. ومع ذلك، كشفت يوجوف، أن ألمانيا لا تزال الدولة الأكثر تأييدًا لإسرائيل في أوروبا، والأكثر تعاطفا معها بنسبة تأييد 29%، مقارنة بـ12% للفلسطينيين، وعلى النقيض من ذلك، كانت إسبانيا الدولة الأكثر تأييدا للفلسطينيين بنسبة 27%. ورغم تزايد التعاطف معهم في فرنسا منذ أكتوبر 2023، فإن معدل تأييدهم أقل من نظيره حيال إسرائيل.
ومع استمرار احتجاجات الشباب في الغرب ضد ردود فعل حكوماتهم تجاه الحرب في غزة، يصبح تأثير الانقسامات الديموغرافية على الانتخابات المقبلة مسألة مهمة. ففي الولايات المتحدة، شهدت الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الديمقراطي مقاطعة عشرات الآلاف من الناخبين لبايدن، مع رفض أكثر من 100 ألف من أعضاء حزبه في ولاية ميشيجان، وحدها، اختياره لولاية أخرى. وتاريخيا، يُعتبر الفوز في ميشيجان، مؤشرا للفوز بالانتخابات الرئاسية في البلاد كلها. ففي حين فاز فيها ترامب بفارق 11 ألف صوت فقط عام 2016، فقد فاز بايدن بنحو 150 ألف صوت عام 2020.
وعلى الرغم من خسارة بايدن في الانتخابات التمهيدية بالولاية، فقد وصف مايكل كوكس، من المعهد الملكي للشؤون الدولية، هذه النتيجة بأنها لا تترجم في حد ذاتها إلى دعم لترامب. ورأت سالي هاول، من جامعة ميشيجان، أن البيت الأبيض ينبغي أن يكون قلقًا، إزاء حجم المعارضة لسياسات إدارته الديمقراطية الحالية، إذ يمكن أن يؤدي هذا في نهاية المطاف إلى عدم إعادة انتخابهم في الانتخابات القادمة.
وفي المملكة المتحدة، سلط فوز جورج غالاوي، في الانتخابات الفرعية في روتشديل -والذي أكد أهمية دور بريطانيا تجاه حرب غزة خلال حملته الانتخابية- الضوء على كيف يمكن لتوقعات بانتصار ساحق لحزب العمال أن تتغير بشكل مفاجئ؛ بسبب تناقض تصريحات كير ستارمر، فيما يتعلق بالحرب.
ومع إشارة كريس ماسون، في شبكة الـ بي بي سي، إلى وجود كثير من المجتمعات التي تضم أعدادا كبيرة من المسلمين، ومعارضة كثير من الشباب البريطاني للحرب على غزة؛ فقد رأت مجلة الإيكونوميست، أن حزب العمال لا يمكن أن يكون على يقين من الفوز في الانتخابات المقرر إجراؤها في خريف عام 2024.
وعلى الرغم من أن الانقسامات بين الأجيال المختلفة قد يكون لها تأثير في الانتخابات الوطنية المقبلة، فمن المهم الاعتراف بأن القضية الفلسطينية بالنسبة إلى العديد من شعوب دول أمريكا الشمالية، وأوروبا محاطة بنوع من الجهل واللامبالاة. ولإثبات ذلك، أوضح تلحمي، أن 41% من المشاركين في استطلاعات الرأي الأمريكية لا يعتقدون أن حرب غزة لها تأثير مباشر على بلادهم، نظرًا لأن العديد منهم لا يراقبون القضية الفلسطينية، وليس لديهم معلومات كافية عنها، وعندما سُئلوا عما إذا كانت العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، مبررة أم لا، قال 42% إنهم لا يعرفون ما يكفي ليكون لديهم رأي، وأيد ثلث المشاركين إسرائيل، والربع الآخر وقف ضدها.
وفي بريطانيا، أوضح استطلاع يوجوف، أنه في حين ذكر 28% من المشاركين أنهم يتعاطفون مع الفلسطينيين، فقد أعرب 16% عن انحيازهم للإسرائيليين، وأيد 24% كلا الطرفين بالتساوي، وأشار 34%، إلى أنهم لم يكن لديهم أدنى مشاعر حيال الطرفين. وبالمثل، فإن قدرة الأوروبيين على فهم طبيعة القضية الفلسطينية، لا تزال في أدنى مستوياتها، إذ تبلغ 41% في فرنسا، و34% في إيطاليا، و46% في إسبانيا، و33% في ألمانيا.
على العموم، في ضوء هذه البيانات من المهم تأكيد أن ردود فعل الحكومات الغربية حيال ما تقوم به إسرائيل من قتل وتدمير وتشريد في قطاع غزة؛ ستكون مهمة لتحديد مصير الانتخابات الوطنية القادمة، لاسيما في ظل مشاعر التعاطف المتزايد مع الفلسطينيين، خاصة من جيل الشباب، وهو ما يعكس كيف أن وحشية هذه الحرب غيرت من التصورات الأوسع حيال انتهاكات إسرائيل لكل الأعراف والقوانين الدولية في التعامل مع المدنيين، فضلا عن نيتها الواضحة في احتلال الأراضي بأشد آليات القوة والترهيب.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك