«خطة يمنية - أممية للتعامل مع غرق السفينة البريطانية - روبيمار وتجنب كارثة بيئية» عنوان تناولته وسائل الإعلام المختلفة خلال الأيام الماضية وخلاصته أنه يتوقع أن يتم إبرام اتفاق بين الحكومة اليمنية والأمم المتحدة يتضمن كيفية التعامل مع السفينة البريطانية التي أغرقها الحوثيون خلال شهر فبراير 2024، والتي تحمل على متنها مواد كيماوية ووقودا، في ظل تحذير منظمة التنمية الدولية في غرب إفريقيا «الإيجاد» أنه حال تسرب المواد التي تحملها السفينة للبيئة البحرية في البحر الأحمر فإن تلك المنطقة سوف تحتاج إلى 30 عاماً على الأقل من أجل التعافي من التلوث الناتج جراء تسرب تلك المواد إلى مياه البحر، حيث تحمل تلك السفينة أكثر من 21 ألف طن متري من سماد فوسفات الأمونيوم و200 طن من الوقود.
الخبر استرعى انتباهي بشكل كبير لثلاثة أسباب أولها: إنه خلال كتاباتي عن إدارة الأزمات والكوارث كنت من بين هؤلاء الذين حذروا من مغبة غرق إحدى الشاحنات سواء جراء كارثة طبيعية أو نتيجة صراع في البحار وما يعنيه ذلك من تلوث بحري واسع المدى يمتد تأثيره على المنطقة لعقود قادمة، وثانيها: إن لدول الخليج العربي تجربتين في هذا الشأن الأولى خلال الحرب العراقية- الإيرانية في الثمانينيات والتي تخللتها ما عرف بحرب الناقلات عندما تعرض حقل نفطي إيراني للقصف ومن ثم تدفق ما بين150-200 ألف برميل من النفط في مياه الخليج العربي مما أدى إلى توقف كل محطات تحلية المياه في دول الخليج العربي جميعها تقريباً باستثناء سلطنة عمان، والثانية: خلال الغزو العراقي للكويت عام 1990 تشير المصادر إلى النظام العراقي قام بفتح أنابيب النفط الكويتية في مياه الخليج العربي ليحدث تسرباً نفطياً في مياه الخليج العربي يقدر بحوالي 11 مليون برميل و20 مليون برميل تحولت إلى بحيرات نفطية، أما السبب الثالث: فهو خطة الأمم المتحدة الناجحة لنقل أكثر من مليون برميل من النفط الخام كانت على متن ناقلة النفط صافر التي كان يحتجزها الحوثيون منذ عام 2015 قبالة سواحل الحديدة وكان تسرب تلك الكمية من النفط للبحر الأحمر يعني كارثة بيئية محققة.
تلك الحوادث ليست سوى غيض من فيض، ففي ظل استمرار تهديدات الأمن البحري على نحو غير مسبوق فإننا سنكون أمام سيناريوهات مشابهة في المستقبل القريب وخاصة في ظل حقيقتين الأولى: توظيف التكنولوجيا في صراعات البحار ففي 18فبراير 2024 استطاع الحوثيون شن هجوم على سفينة من خلال مسيرة تحت الماء وذلك للمرة الأولى، وفي 14 مارس 2024 أطلق الحوثيون صاروخ باليستي مضاد للسفن تجاه خليج عدن وعلى الرغم من عدم إصابته أهداف ولكنه مؤشر يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار.
ومع أهمية الجهود التي تبذل حالياً للحفاظ على أمن الملاحة البحرية وهي القضية التي تهم دول العالم كافة فإن الحديث عن تلوث البيئة البحرية يجب أن يكون مثار اهتمام كل الأطراف الإقليمية والدولية من خلال استراتيجيات دائمة ولا يقتصر الأمر على التعامل مع كل حالة على حدة، صحيح أن نجاح الأمم المتحدة في إنقاذ البحر الأحمر من كارثة غرق ناقلة النفط صافر كان تجربة مهمة بيد أنها تطلبت ميزانية بلغت 142 مليون دولار وكانت هناك مساهمات من بعض دول المنطقة في تلك الميزانية.
وفي تقديري أنه إذا كانت تهديدات الملاحة البحرية في باب المندب تحديا يواجه دول العالم كافة فإن آثاره بالنسبة إلى دول الخليج العربي تتضاعف ليس فقط لاعتماد دول الخليج على ذلك الممر في تجارتها مع العالم الخارجي فحسب وإنما تلوث البيئة البحرية هو التحدي الأكبر في ظل المشروعات التنموية الواعدة على ساحل البحر الأحمر وأتصور أن دول الخليج العربي يتعين عليها أن تسير في ثلاثة مسارات متوازية المسار الأول: أن تكون تلك القضية مثار اهتمام مركز إدارة حالات الطوارئ بمجلس التعاون من خلال خطط متكاملة لكيفية تعاون دول الخليج لمواجهة خطر تلوث البيئة البحرية على نحو مفاجئ لأن ذلك الأمر لا يرتبط بمضيق باب المندب فحسب، ففي ظل التصعيد الإقليمي فإن مضيق هرمز ليس ببعيد عن ذلك السيناريو وذلك انطلاقاً مما شهدته القوات البحرية لدول الخليج من تطور خلال السنوات القليلة القادمة أخذاً في الاعتبار أن الدراسات أكدت أن نسبة 30% من حالات التسرب النفطي في العالم تحدث في منطقة الخليج العربي، أما المسار الثاني فهو أن إجراء مناورات نوعية في مجال السلامة البحرية سواء بين دول الخليج العربي أو بين تلك الدول والشركاء الإقليميين والدوليين على أن يستهدف التدريب كيفية مواجهة كوارث البحار وخاصة حالات التسرب النفطي والإنقاذ السريع أخذاً في الاعتبار أن تلك الأهداف ذاتها التي استهدفتها المناورات البحرية التي أجريت مؤخراً في خليج عمان وبحر العرب. ، أما المسار الثالث والأخير فهو تصميم نماذج محاكاة وهي ذات شقين أحدهما بحثي والآخر تنفيذي، فعلى سبيل المثال تولي مراكز الدراسات الغربية سيناريو إغلاق مضيق هرمز أهمية بالغة في ظل استمرار توتر العلاقات الأمريكية - الإيرانية، صحيح أن إقدام إيران على ذلك الأمر غير ممكن ولو حدث سيكون خطاً استراتيجياً ولكن الفكرة هي مدى الاهتمام بصياغة أسوأ السيناريوهات ومن ثم الاستعداد له وذلك هو جوهر التفكير الاستراتيجي، وبالتالي لابد من محاكاة مواجهة حالة تسرب نفطي في مياه البحر وتأثير ذلك في البيئة البحرية والخطط البديلة لذلك وربما يكون من المفيد أن تكون تلك القضية ضمن المواد الدراسية في كليات الدفاع الوطني بدول الخليج العربي وكذلك تكون موضوعاً لدورات تدريبية تتضمن تجارب الدول الأخرى في مواجهة مثل هذه الكوارث.
ومع أهمية الجهود التي تضطلع بها الأمم المتحدة لمواجهة الكوارث البحرية إلا أنه في ظل الحاجة إلى موارد مالية لهذا الغرض وزيادة وتيرة تلك التهديدات على نحو غير مسبوق، فلابد أن تكون هناك جهود إقليمية منتظمة وتكون على أهبة الاستعداد لأن تعطل الملاحة في الممرات أمر يمكن مواجهته من خلال آلية الردع إلا أن التلوث البحري على نطاق واسع خطر يهدد الثروة البحرية ليس في الوقت الراهن فحسب وإنما يمتد لعقود قادمة، وربما تكون هناك حاجة إلى استراتيجيات متكاملة للأمن البحري الذي يعد في تقديري جوهر الأمن القومي للدول التي توصف بأنها بحرية ومن بينها دول الخليج العربي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك