سنظل نتذكر طويلا الإبادة الجماعية المقيتة التي ارتكبتها إسرائيل ضد أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة كما سنظل ننظر إلى هذه الجرائم الشنيعة على أنها تمثل عنوانا للانهيار الأخلاقي الغربي.
وبمجرد أن بدأت الحرب الإسرائيلية، في أعقاب عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2003م، سقط فجأة كل إطار مرجعي أخلاقي أو قانوني كان من المفترض أن واشنطن وحلفاءها الغربيين يعتزون به.
هرع القادة الغربيون عندها تباعا إلى إسرائيل، واحدًا تلو الآخر، لتقديم الدعم العسكري والسياسي والاستخباراتي - إلى جانب تقديم شيك على بياض لرئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني بنيامين نتنياهو وجنرالاته لتعذيب الفلسطينيين والتنكيل بهم.
لقد بلغ الأمر بأمثال وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إلى حد الانضمام إلى أول اجتماع لمجلس الحرب الإسرائيلي، حتى يتمكن من المشاركة في المناقشة التي أدت مباشرة إلى الإبادة الجماعية في غزة.
قال بلينكن في تصريح له يوم 12 أكتوبر: «إنني أقف أمامكم ليس فقط كوزير خارجية الولايات المتحدة، بل أيضا كيهودي».
إن تفسير هذه الكلمات مثير للقلق، بغض النظر عن كيفية نسجه، ولكنه يعني أيضا في نهاية المطاف أن بلينكن قد فقد كل مصداقيته كأميركي، أو كسياسي، أو حتى كإنسان منصف.
أما رئيسه جو بايدن، وكأني وجد نفسه في حلقة لا نهاية لها، فقد كان يردد منذ سنوات أنه «ليس من الضروري أن تكون يهوديا لكي تكون صهيونيا». في الواقع، لقد التزم بمبدئه، حيث أعلن مرارًا وتكرارًا: «أنا صهيوني». إنه كذلك في الواقع.
وعلى غرار العديد من المسؤولين والسياسيين الأمريكيين والغربيين، فقد تخلى الرئيس الأمريكي عن القوانين الدولية والإنسانية تمامًا، وحتى قانون بلاده.
يحظر قانون ليهي «على وزارة الخارجية ووزارة الدفاع الأمريكية تقديم المساعدة العسكرية لوحدات قوات الأمن الأجنبية التي تنتهك حقوق الإنسان مع الإفلات من العقاب».
وبدلاً من ذلك، فقد أيد بايدن، وعلى غرار بلينكن، الانتماء القبلي والمفاهيم الأيديولوجية، الأمر الذي أدى ببساطة إلى صب الوقود على النار.
على الرغم من كونهم «أشخاصًا محميين» بموجب القانون الدولي، يبدو أن الفلسطينيين يمكن الاستغناء عنهم، في الواقع، لا أهمية لهم لدرجة أن موتهم الجماعي يبدو حاسمًا بالنسبة إلى إسرائيل لاستعادة «قوتها الردعية» وحماية نفسها، على حد تعبير وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت ضد «الحيوانات البشرية» في قطاع غزة.
لو كان هناك كلمة أقوى من النفاق لاستخدمتها. ولكن في الوقت الحالي، يجب أن يكون هذا كافيا.
في بداية الحرب، عقد كثيرون مقارنة محقة بين رد فعل الغربيين تجاه غزة ورد فعلهم الغاضب على الحرب في أوكرانيا.
ومع ذلك، مع ارتفاع عدد القتلى، بدت هذه المقارنة غير كافية. وقتل أكثر من 12 ألف طفل في غزة خلال 140 يوما من الحرب، مقارنة بـ 579 طفلا في الحرب الروسية الأوكرانية التي استمرت عامين.
ومع ذلك، عندما سُئل منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في مقابلة مع قناة الجزيرة في 20 نوفمبر الماضي حول انتهاكات القانون الدولي في غزة، قدم إجابتين مختلفتين تمامًا.
وقال عندما تم التشكيك في شرعية الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في غزة: «أنا لست محاميا». وعندما تحول المحاور للحديث عن طوفان الأقصى، لم يكن لدى بوريل أي مخاوف بشأن هذه القضية. وقال: «نعم، نعتبر ذلك جريمة حرب، لقتل المدنيين بهذه الطريقة الصارخة دون أي سبب».
ولم تتكرر هذه الحادثة كثيرا في وسائل الإعلام الأمريكية، وذلك ببساطة لأن القليل من الصحفيين في وسائل الإعلام الرئيسية يشعرون بالانزعاج، أو بشكل أكثر دقة، لا يجرؤون على التشكيك في سلوك إسرائيل المروع في قطاع غزة.
ومع ذلك، عندما سنحت مثل هذه الفرص، كان من المستحيل إخفاء النفاق الصارخ. لا نملك إلا أن نتعجب، على سبيل المثال، من ماثيو ميلر، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، ردا على مزاعم الاغتصاب في كل من غزة وإسرائيل.
وعندما سُئل، في 18 فبراير الماضي، عن مزاعم اغتصاب جنود إسرائيليين لنساء فلسطينيات في غزة، كان جوابه أن الولايات المتحدة حثت إسرائيل على «التحقيق بشكل شامل وشفاف في الادعاءات الموثوقة».
لنقارن ذلك برده على سؤال حول مزاعم لا يمكن التحقق منها بشأن اعتداءات جنسية تم الزعم بارتكابها من قبِل فلسطينيين، على الرغم من فضحها حتى من قبل وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها. «لقد ارتكبوا الاغتصاب». وقال في مؤتمر صحفي يوم 4 ديسمبر الماضي: «ليس لدينا أي سبب على الإطلاق للشك في هذه التقارير».
مثل هذه الأمثلة تصدر يوميا عن مئات من القادة الغربيين وكبار المسؤولين والمؤسسات الإعلامية. وحتى الآن، بعد أن حطم عدد القتلى كل الأرقام القياسية للوحشية في تاريخ البشرية الحديث، وهم ما زالوا يتحدثون عن «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، متجاهلين عمداً حقيقة أن إسرائيل قد خسرت هذا الحق بمجرد انخراطها في هذا العدوان المطول ابتداء من عام 1948.
والواقع أن القانون الدولي بشأن قواعد الحروب والاحتلال العسكري يقع ضمن إطار ــ وضعته بشكل خاص اتفاقية جنيف الرابعة ــ للدفاع عن حقوق المحتل، وليس حق المحتل.
وهذه الحقيقة العريقة واضحة للأغلبية العظمى من البشرية، باستثناء سلطات واشنطن وعدد قليل من أمثالها.
وبينما شهد العشرات من المبعوثين من جميع أنحاء العالم أمام محكمة العدل الدولية في الفترة من 19 إلى 26 فبراير، احتجاجًا على العنف الإسرائيلي المروع والاحتلال الذي طال أمده ونظام الفصل العنصري، أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية مبعوثها إلى أعلى محكمة في العالم للضغط من أجل شيء ما.
تحت عنوان مثير للسخرية هو «القائم بأعمال المستشار القانوني لوزارة الخارجية الأمريكية»، حث ريتشارد فيسيك محكمة العدل الدولية بشكل غريب على تجاهل القانون الدولي تماما.
وقال: «لا ينبغي للمحكمة أن تجد أن إسرائيل ملزمة قانونا بالانسحاب الفوري وغير المشروط من الأراضي المحتلة».
ظلت الحكومات الغربية، بدءًا من الولايات المتحدة، فترة طويلة جدًا، وخاصة منذ 7 أكتوبر 2023، تنتهك كل القيم والمبادئ الأخلاقية ومختلف القوانين التي طورتها وصياغتها وروجت لها، بل وفرضتها على بقية العالم لعقود عديدة.. وهم حاليًا يقومون عمليًا بتفكيك قوانينهم الخاصة، والمعايير الأخلاقية ذاتها التي أدت إلى تشكيلها.
والآن وبعد أن بدأ بعض الزعماء الغربيين يشعرون بعدم الارتياح على نحو متزايد مع تكشف فداحة الإبادة الجماعية في غزة، أعلن عدد قليل منهم، على الرغم من خجلهم، أن نتنياهو ربما «يذهب إلى أبعد من ذلك».
ومع ذلك، فإن حتى الاعتراف الصريح بالمسؤولية لن يمحو حقيقة أنهم مشاركون نشطون في حملة القتل التي يقودها نتنياهو.
وعندما يتم قول وفعل كل شيء، فإن دماء العدد الكبير المرعب من الضحايا الفلسطينيين سيتم تقاسمها بالتساوي بين تل أبيب وبروكسل ولندن وسيدني وجميع المدافعين الآخرين عن الإبادة الجماعية. لا شك أن جريمة شنيعة بهذا الحجم لن تُنسى أو تُغفر.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك