ربما أبدأ رحلتي اليوم معكم بجملة عمرها يزيد على 90 سنة انطلقت من فم أسد الصحراء المجاهد عمر المختار أمام القائد الإيطالي المستعمر للأرض الليبية، فقد قال «نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت».
نحسب أن عمر المختار لم ينطق بهذا القول باعتبارها فلسفة أو محاولاً إظهار معاني فلسفية للحياة والموت، ولكن نعتقد أن الإيمان بالله سبحانه وتعالى الذي كان يتأجج في قلبه والفهم الواضح للإسلام ومبادئ الإسلام هي التي أنطقته بهذه الكلمات، فقد كان مفهوم الحياة والموت واضحًا عند هذا المجاهد الذي قضى جزءًا كبيرًا من حياته يحمل البندقية محاولاً إخراج المستعمر والمحتل من أرضه.
إن مفهوم الحياة والموت في الفكر الإسلامي هو الأمر الذي أذهل العالم من تصرفات أهالي غزة في هذه الفترة، فكل الذي شاهد تلك المرأة بعدما خرجت من تحت الأنقاض وعلمت حينها أن كل أهلها قد توفوا فما قالت غير (الحمد لله)، أو ذلك الطفل الذي يعلم أن أبواه قد قضيا فما يبكي وإنما يقول (الحمد لله)، وغيرهما الكثير، هذا بسبب أن مفهوم الحياة والموت كان واضحًا في أذهان كل هؤلاء. بينما أن هناك كثيرين من الذين لا يعيشون أتون المعركة ولا يعرفون قيمة الموت والحياة ولا يفهمون معانيها في الإسلام يقول: ماذا استفاد أهل غزة من كل هذا الدمار وهذه المعركة؟ أما كان الأولى بهم أن يعيشوا خانعين يأكلون ويشربون في ذل وهوان أفضل من كل هذا الموت والدماء والدمار؟
لم يأت أهل غزة بعقيدة الحياة والموت من فراغ، وإنما هي امتداد وتأصيل للعقيدة الإسلامية، فها هو الصحابي القائد سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه يرسل إلى ملك الفرس بخطاب يقول فيه «... جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة ...»، فالحياة والموت في العقيدة الإسلامية سواء، بل إن الموت في سبيل الله سبحانه تعالى سيؤدي حتمًا إلى الحياة الأبدية المنعمة في الجنة، فإن كان المرء يؤمن بالله سبحانه وتعالى فستكون تلك عقيدته، وإن لم يكن يؤمن فهذا شأنه.
مفهوم الحياة في الإسلام
الحياة الدنيا في القرآن يلخصها الله سبحانه وتعالى في سورة يونس – الآية 24 حينما قال: (إِنَّما مَثَلُ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنزَلناهُ مِنَ السَّماءِ فَاختَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرضِ مِمّا يَأكُلُ النّاسُ وَالأَنعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الأَرضُ زُخرُفَها وَازَّيَّنَت وَظَنَّ أَهلُها أَنَّهُم قادِرونَ عَلَيها أَتاها أَمرُنا لَيلًا أَو نَهارًا فَجَعَلناها حَصيدًا كَأَن لَم تَغنَ بِالأَمسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّرونَ).
يقول السعدي في تفسير هذه الآية الكريمة «هذا المثل من أحسن الأمثلة، وهو مطابقٌ لحال الدنيا؛ فلذات الدنيا وشهواتها وجاهها وقتها قصير، فلا يلبث الإنسان تعجبه الدنيا ويتنعم فيها ويرى فيها الملذات حتى تزول عنه هذه النعم أو يزول هو عنها فيصبح صفر اليدين، ممتلئ القلب من الهمّ والحزن والحسرة». علمًا أن هذا المفهوم يختلف تمامًا عن المفهوم الغربي المادي الملحد الذي يعتقد أن الحياة الدنيا هي المتعة والنهاية، وأنه لا توجد بعد هذه المتعة متعة أبدية.
ولكن كثيرا من المسلمين أخطأ في فهم هذه العقيدة، واعتقد أن القرآن حقر الحياة الدنيا وجعلها لا تستحق الاهتمام والانهماك، فأدى ذلك إلى قبول الأمور الواقعة والاستسلام لها، مهما كان فيها من المسكنة والخمول والانكماش عن الجد في العمل والكفاح والحركة في سبيل حياة حرة ماجدة والظن بأن تعاليم القرآن تدعو إلى نفض اليد من الحياة واعتبارها عابرة لا تستحق جهدًا وكفاحًا وحركة ونشاطًا.
وللأسف هذه النظرة للحياة الدنيا استفحلت قديمًا إلى أن بلغت ذروتها، وقد عقد لها حجة الإسلام الشيخ والأمام الغزالي فصلاً في كتابه (إحياء علوم الدين)، بعنوان (ذم الحياة)؛ وبين أن الناس إزاء الدنيا أصناف، فصُنف أول: انكب على الحياة وطلب شهوتها أو مالها أو شهرتها أو سلطانها وجاهها،
وصُنف ثان: أعرض عنها وطلب الخلاص من محنتها بقتل النفس أو قطع الشهوات وإماتة الصفات البشرية أو الانقطاع إلى العبادة والاستغناء عن الوسيلة والحيلة، وفي كل صنف من هذين الصنفين – كما يقول الغزالي – نيف وسبعون طائفة كلها ضالة ومضلة. أما الصنف الثالث وهي الفرقة الناجية فيرى الدنيا: يؤخذ منها قدر الزاد وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل، ولا يتبع كل شهوة بل يتبع العدل ولا يترك كل شيء ولا يطلب كل شيء من الدنيا. حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله تعالى بكل همته، واشتغل بالذكر والفكر طول العمر.
فالحياة من المنظور الإسلامي هبة ربانية من الخالق، وحكمة عالية وغاية عظيمة، وغايتها كما يقول تعالى في سورة الملك – الآية 2 (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً)، فالاختبار والابتلاء بالعبادة والطاعة لله عز وجل هي وظيفة الحياة الدنيا (وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون)، الذاريات – الآية 56، ولذلك تتميز حياة المؤمن بالاستقامة تجاه الله سبحانه فلا يشرك بعبادته أحد من خلقه، ولا يخالف أمره في كل شؤونه، والاستقامة تجاه الناس جميعًا، فلا يَظلم أحدًا ولا يعتدي على أحد ويحب الخير للجميع وينصر كل مظلوم، ولكنه لا يرضى بالذل والهوان، لذلك عليه من واجبات العبادة دفع الضرر أيًا ما كان.
فالحياة الدنيا في العقيدة الإسلامية مرحلة تمر ولا تبقى، وتسر ولا تستمر، فهي كدورة النبات يبدو جميلاً ثم لا يلبث أن يصبح هشيمًا تتناثر مع الرياح، فبحس المؤمن هي دار ممر إلى الحياة الحقيقية في الآخرة، عندها لا ينخدع بزينتها وزخارفها، بل يجعلها وسيلة لعمارة هذه الأرض وفق المنهج الرباني، ويصبح شاغله الشاغل فيها هو استعمال ما وهبه الله فيها من نعم وقدرات فيما يقربه من مولاه، وفيما ينفعه في الآخرة، فكل ما يغرسه من أعمال صالحة في الدنيا يجد ثمراته في الآخرة، الحياة الحقيقية اللائقة بهذا المخلوق المكرم.
ومن أراد الجمال الدائم والسعادة التي لا تزول والنعيم الذي لا ينفد فعليه التزام منهج الله في الدنيا ليرث الجنة في الآخرة.
مفهوم الموت في الإسلام
الموت في الإسلام ليس نقيضًا للحياة الدنيا، وإنما هو مكمل لها، فالموت هو نهاية الحياة الدنيا فقط، ولكنه بداية الحياة جديدة وفي مكان آخر. فلقد تعامَلَ الإسلام مع قضيَّة الموت تعامُلاً رشيدًا واضحًا؛ ليُطلق رؤية مُؤسِّسةً لنظرة المُسلمينَ للموت، مُؤسَّسةً على عقيدة الإسلام. ولمْ يكتفِ بالترهيب أو استخدام الموت فزَّاعةً كما يقول المبطلون في أقوالهم.
فالموت ليس فكرةً عاديَّة، بل ليس فكرةً وحسب، بل هو الحقيقة الأولى والأخيرة، وهو من الحقائق المُطلقة التي تُسلِّم بها كلُّ نفس، وتراها حاضرةً وتذوقها. وللموت كثير من الرؤى الفلسفيَّة والفكريَّة والأدبيَّة؛ فقد كُتب عنه في كلّ الثقافات وبكلّ اللغات. لذلك هو من الموادِّ الثريَّة، وهو أيضًا من الموادِّ التي يتنوَّع فيها تفسير تلك الظاهرة التي تنال من البشر جميعًا، ويكون التفسير على حسب الثقافة الغالبة.
وفي الإسلام لا ينظر إلى الموت على أنه إنهاء للحياة، بل على أنه استمرار للحياة في شكل آخر وفي مكان آخر، فهو بوابة لبداية حياة الآخرة، فالموعد الدقيق لوفاة الإنسان لا يعرفه إلا الله سبحانه وتعالى بالدقيقة وبالثانية مهما حاولت الدراسات والأبحاث أن تطيل عمر الإنسان، إلا أن كل شخص لا يذهب إلا وقد اكتمل وجوده في الحياة الدنيا.
وعلى الرغم من ذلك فإن الموت مخيف ومحزن لأهل الميت، وهذا أمر طبيعي لأن الإنسان عدو لما يجهل، فهو يجهل ما سيأتينا من بعده، ومحزن لأهل الميت لأنه فراق الأحبة، وبالتالي فإن هذه الحقيقة تصبح مؤلمة ومحزنة ومخيفة.
ولكن الله سبحانه وتعالى يصور لنا وفاة المسلم الطيب الذي فهم معنى وجوده في الأرض فيقول في سورة النحل – الآية 32 (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون)، وفي سورة الفجر – الآيات من 27 إلى 30 (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)، والكثير من الآيات توضح، لا بل تمنح الاطمئنان إلى الإنسان الذي يؤمن بهذه العقيدة ويعيش معها ويتعايش.
لذلك فإن الموت في العقيدة الإسلامية فكرة واضحة وحياة أبدية مستمرة وبداية رحلة إلى الله سبحانه وتعالى، فعندما قيل لأحد الأعراب «إنك ميت»، فقال: ثم إلى أين بعد الموت ؟، فقيل له: إلى الله سبحانه وتعالى، فأجاب: «ما وجدنا الخير إلا من الله تعالى، أفنخشى لقاءه؟».
لذلك كان سيف الله المسلول رضي الله عنه واثقًا حينما قال (جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة)، وهؤلاء أحبوا الموت ليس لأنه النهاية، وإنما هو البوابة التي سيدلفون عبرها إلى ملاقاة الله سبحانه وتعالى وإلى الحياة السرمدية وجنة عرضها كعرض السماوات والأرض، ومفتاحهم هو الشهادة في سبيل الله وفي أرض المعركة، بالإضافة إلى هذا كله فإن كل ذلك يتوج برضوان الله سبحان وتعالى، وهذا هو اليقين الذي يعيش فيه أهل غزة، فإننا نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يحتسبهم كلهم شهداء. أما الذين يعتبون على أهل غزة ويفكرون بالحسابات والماديات والربح والخسارة ويجدون أن أهل غزة يضحون ويموتون هم وأولادهم من غير نتيجة، فأعتقد أنه ينبغي عليهم أن يعيدوا التفكير في عقيدتهم.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك