العدد : ١٧٠٤٦ - السبت ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٦ - السبت ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

الحياة والموت في المنظور الإسلامي.. غزة أنموذجا

بقلم: د. زكريا الخنجي

الأحد ١٧ مارس ٢٠٢٤ - 02:00

ربما‭ ‬أبدأ‭ ‬رحلتي‭ ‬اليوم‭ ‬معكم‭ ‬بجملة‭ ‬عمرها‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬90‭ ‬سنة‭ ‬انطلقت‭ ‬من‭ ‬فم‭ ‬أسد‭ ‬الصحراء‭ ‬المجاهد‭ ‬عمر‭ ‬المختار‭ ‬أمام‭ ‬القائد‭ ‬الإيطالي‭ ‬المستعمر‭ ‬للأرض‭ ‬الليبية،‭ ‬فقد‭ ‬قال‭ ‬‮«‬نحن‭ ‬لا‭ ‬نستسلم،‭ ‬ننتصر‭ ‬أو‭ ‬نموت‮»‬‭.‬

نحسب‭ ‬أن‭ ‬عمر‭ ‬المختار‭ ‬لم‭ ‬ينطق‭ ‬بهذا‭ ‬القول‭ ‬باعتبارها‭ ‬فلسفة‭ ‬أو‭ ‬محاولاً‭ ‬إظهار‭ ‬معاني‭ ‬فلسفية‭ ‬للحياة‭ ‬والموت،‭ ‬ولكن‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬الإيمان‭ ‬بالله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتأجج‭ ‬في‭ ‬قلبه‭ ‬والفهم‭ ‬الواضح‭ ‬للإسلام‭ ‬ومبادئ‭ ‬الإسلام‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬أنطقته‭ ‬بهذه‭ ‬الكلمات،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬مفهوم‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭ ‬واضحًا‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬المجاهد‭ ‬الذي‭ ‬قضى‭ ‬جزءًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬يحمل‭ ‬البندقية‭ ‬محاولاً‭ ‬إخراج‭ ‬المستعمر‭ ‬والمحتل‭ ‬من‭ ‬أرضه‭. ‬

إن‭ ‬مفهوم‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬هو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أذهل‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬تصرفات‭ ‬أهالي‭ ‬غزة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفترة،‭ ‬فكل‭ ‬الذي‭ ‬شاهد‭ ‬تلك‭ ‬المرأة‭ ‬بعدما‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الأنقاض‭ ‬وعلمت‭ ‬حينها‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬أهلها‭ ‬قد‭ ‬توفوا‭ ‬فما‭ ‬قالت‭ ‬غير‭ (‬الحمد‭ ‬لله‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬ذلك‭ ‬الطفل‭ ‬الذي‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬أبواه‭ ‬قد‭ ‬قضيا‭ ‬فما‭ ‬يبكي‭ ‬وإنما‭ ‬يقول‭ (‬الحمد‭ ‬لله‭)‬،‭ ‬وغيرهما‭ ‬الكثير،‭ ‬هذا‭ ‬بسبب‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭ ‬كان‭ ‬واضحًا‭ ‬في‭ ‬أذهان‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭. ‬بينما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يعيشون‭ ‬أتون‭ ‬المعركة‭ ‬ولا‭ ‬يعرفون‭ ‬قيمة‭ ‬الموت‭ ‬والحياة‭ ‬ولا‭ ‬يفهمون‭ ‬معانيها‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬يقول‭: ‬ماذا‭ ‬استفاد‭ ‬أهل‭ ‬غزة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الدمار‭ ‬وهذه‭ ‬المعركة؟‭ ‬أما‭ ‬كان‭ ‬الأولى‭ ‬بهم‭ ‬أن‭ ‬يعيشوا‭ ‬خانعين‭ ‬يأكلون‭ ‬ويشربون‭ ‬في‭ ‬ذل‭ ‬وهوان‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الموت‭ ‬والدماء‭ ‬والدمار؟

لم‭ ‬يأت‭ ‬أهل‭ ‬غزة‭ ‬بعقيدة‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭ ‬من‭ ‬فراغ،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬امتداد‭ ‬وتأصيل‭ ‬للعقيدة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬فها‭ ‬هو‭ ‬الصحابي‭ ‬القائد‭ ‬سيف‭ ‬الله‭ ‬المسلول‭ ‬خالد‭ ‬بن‭ ‬الوليد‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬يرسل‭ ‬إلى‭ ‬ملك‭ ‬الفرس‭ ‬بخطاب‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭ ‬‮«‬‭... ‬جئتكم‭ ‬بقوم‭ ‬يحبون‭ ‬الموت‭ ‬كما‭ ‬تحبون‭ ‬الحياة‭ ...‬‮»‬،‭ ‬فالحياة‭ ‬والموت‭ ‬في‭ ‬العقيدة‭ ‬الإسلامية‭ ‬سواء،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬تعالى‭ ‬سيؤدي‭ ‬حتمًا‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬الأبدية‭ ‬المنعمة‭ ‬في‭ ‬الجنة،‭ ‬فإن‭ ‬كان‭ ‬المرء‭ ‬يؤمن‭ ‬بالله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬فستكون‭ ‬تلك‭ ‬عقيدته،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يؤمن‭ ‬فهذا‭ ‬شأنه‭.‬

مفهوم‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬الإسلام

الحياة‭ ‬الدنيا‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬يلخصها‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬يونس‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬24‭ ‬حينما‭ ‬قال‭: (‬إِنَّما‭ ‬مَثَلُ‭ ‬الحَياةِ‭ ‬الدُّنيا‭ ‬كَماءٍ‭ ‬أَنزَلناهُ‭ ‬مِنَ‭ ‬السَّماءِ‭ ‬فَاختَلَطَ‭ ‬بِهِ‭ ‬نَباتُ‭ ‬الأَرضِ‭ ‬مِمّا‭ ‬يَأكُلُ‭ ‬النّاسُ‭ ‬وَالأَنعامُ‭ ‬حَتّى‭ ‬إِذا‭ ‬أَخَذَتِ‭ ‬الأَرضُ‭ ‬زُخرُفَها‭ ‬وَازَّيَّنَت‭ ‬وَظَنَّ‭ ‬أَهلُها‭ ‬أَنَّهُم‭ ‬قادِرونَ‭ ‬عَلَيها‭ ‬أَتاها‭ ‬أَمرُنا‭ ‬لَيلًا‭ ‬أَو‭ ‬نَهارًا‭ ‬فَجَعَلناها‭ ‬حَصيدًا‭ ‬كَأَن‭ ‬لَم‭ ‬تَغنَ‭ ‬بِالأَمسِ‭ ‬كَذلِكَ‭ ‬نُفَصِّلُ‭ ‬الآياتِ‭ ‬لِقَومٍ‭ ‬يَتَفَكَّرونَ‭).‬

يقول‭ ‬السعدي‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬هذه‭ ‬الآية‭ ‬الكريمة‭ ‬‮«‬هذا‭ ‬المثل‭ ‬من‭ ‬أحسن‭ ‬الأمثلة،‭ ‬وهو‭ ‬مطابقٌ‭ ‬لحال‭ ‬الدنيا؛‭ ‬فلذات‭ ‬الدنيا‭ ‬وشهواتها‭ ‬وجاهها‭ ‬وقتها‭ ‬قصير،‭ ‬فلا‭ ‬يلبث‭ ‬الإنسان‭ ‬تعجبه‭ ‬الدنيا‭ ‬ويتنعم‭ ‬فيها‭ ‬ويرى‭ ‬فيها‭ ‬الملذات‭ ‬حتى‭ ‬تزول‭ ‬عنه‭ ‬هذه‭ ‬النعم‭ ‬أو‭ ‬يزول‭ ‬هو‭ ‬عنها‭ ‬فيصبح‭ ‬صفر‭ ‬اليدين،‭ ‬ممتلئ‭ ‬القلب‭ ‬من‭ ‬الهمّ‭ ‬والحزن‭ ‬والحسرة‮»‬‭. ‬علمًا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬يختلف‭ ‬تمامًا‭ ‬عن‭ ‬المفهوم‭ ‬الغربي‭ ‬المادي‭ ‬الملحد‭ ‬الذي‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا‭ ‬هي‭ ‬المتعة‭ ‬والنهاية،‭ ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬المتعة‭ ‬متعة‭ ‬أبدية‭.‬

ولكن‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬أخطأ‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬هذه‭ ‬العقيدة،‭ ‬واعتقد‭ ‬أن‭ ‬القرآن‭ ‬حقر‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا‭ ‬وجعلها‭ ‬لا‭ ‬تستحق‭ ‬الاهتمام‭ ‬والانهماك،‭ ‬فأدى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬قبول‭ ‬الأمور‭ ‬الواقعة‭ ‬والاستسلام‭ ‬لها،‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬المسكنة‭ ‬والخمول‭ ‬والانكماش‭ ‬عن‭ ‬الجد‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬والكفاح‭ ‬والحركة‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬حياة‭ ‬حرة‭ ‬ماجدة‭ ‬والظن‭ ‬بأن‭ ‬تعاليم‭ ‬القرآن‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬نفض‭ ‬اليد‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬واعتبارها‭ ‬عابرة‭ ‬لا‭ ‬تستحق‭ ‬جهدًا‭ ‬وكفاحًا‭ ‬وحركة‭ ‬ونشاطًا‭.‬

وللأسف‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬للحياة‭ ‬الدنيا‭ ‬استفحلت‭ ‬قديمًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬بلغت‭ ‬ذروتها،‭ ‬وقد‭ ‬عقد‭ ‬لها‭ ‬حجة‭ ‬الإسلام‭ ‬الشيخ‭ ‬والأمام‭ ‬الغزالي‭ ‬فصلاً‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ (‬إحياء‭ ‬علوم‭ ‬الدين‭)‬،‭ ‬بعنوان‭ (‬ذم‭ ‬الحياة‭)‬؛‭ ‬وبين‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬إزاء‭ ‬الدنيا‭ ‬أصناف،‭ ‬فصُنف‭ ‬أول‭: ‬انكب‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬وطلب‭ ‬شهوتها‭ ‬أو‭ ‬مالها‭ ‬أو‭ ‬شهرتها‭ ‬أو‭ ‬سلطانها‭ ‬وجاهها،

وصُنف‭ ‬ثان‭: ‬أعرض‭ ‬عنها‭ ‬وطلب‭ ‬الخلاص‭ ‬من‭ ‬محنتها‭ ‬بقتل‭ ‬النفس‭ ‬أو‭ ‬قطع‭ ‬الشهوات‭ ‬وإماتة‭ ‬الصفات‭ ‬البشرية‭ ‬أو‭ ‬الانقطاع‭ ‬إلى‭ ‬العبادة‭ ‬والاستغناء‭ ‬عن‭ ‬الوسيلة‭ ‬والحيلة،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬صنف‭ ‬من‭ ‬هذين‭ ‬الصنفين‭ ‬‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الغزالي‭ ‬‭ ‬نيف‭ ‬وسبعون‭ ‬طائفة‭ ‬كلها‭ ‬ضالة‭ ‬ومضلة‭. ‬أما‭ ‬الصنف‭ ‬الثالث‭ ‬وهي‭ ‬الفرقة‭ ‬الناجية‭ ‬فيرى‭ ‬الدنيا‭: ‬يؤخذ‭ ‬منها‭ ‬قدر‭ ‬الزاد‭ ‬وأما‭ ‬الشهوات‭ ‬فيقمع‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬طاعة‭ ‬الشرع‭ ‬والعقل،‭ ‬ولا‭ ‬يتبع‭ ‬كل‭ ‬شهوة‭ ‬بل‭ ‬يتبع‭ ‬العدل‭ ‬ولا‭ ‬يترك‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ولا‭ ‬يطلب‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الدنيا‭. ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬فرغ‭ ‬القلب‭ ‬من‭ ‬شغل‭ ‬البدن‭ ‬أقبل‭ ‬على‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬بكل‭ ‬همته،‭ ‬واشتغل‭ ‬بالذكر‭ ‬والفكر‭ ‬طول‭ ‬العمر‭.‬

فالحياة‭ ‬من‭ ‬المنظور‭ ‬الإسلامي‭ ‬هبة‭ ‬ربانية‭ ‬من‭ ‬الخالق،‭ ‬وحكمة‭ ‬عالية‭ ‬وغاية‭ ‬عظيمة،‭ ‬وغايتها‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬الملك‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬2‭ (‬الذي‭ ‬خلق‭ ‬الموت‭ ‬والحياة‭ ‬ليبلوكم‭ ‬أيّكم‭ ‬أحسن‭ ‬عملاً‭)‬،‭ ‬فالاختبار‭ ‬والابتلاء‭ ‬بالعبادة‭ ‬والطاعة‭ ‬لله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭ ‬هي‭ ‬وظيفة‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا‭ (‬وما‭ ‬خلقتُ‭ ‬الجن‭ ‬والإنس‭ ‬إلا‭ ‬ليعبدون‭)‬،‭ ‬الذاريات‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬56،‭ ‬ولذلك‭ ‬تتميز‭ ‬حياة‭ ‬المؤمن‭ ‬بالاستقامة‭ ‬تجاه‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬فلا‭ ‬يشرك‭ ‬بعبادته‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬خلقه،‭ ‬ولا‭ ‬يخالف‭ ‬أمره‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شؤونه،‭ ‬والاستقامة‭ ‬تجاه‭ ‬الناس‭ ‬جميعًا،‭ ‬فلا‭ ‬يَظلم‭ ‬أحدًا‭ ‬ولا‭ ‬يعتدي‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬ويحب‭ ‬الخير‭ ‬للجميع‭ ‬وينصر‭ ‬كل‭ ‬مظلوم،‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يرضى‭ ‬بالذل‭ ‬والهوان،‭ ‬لذلك‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬واجبات‭ ‬العبادة‭ ‬دفع‭ ‬الضرر‭ ‬أيًا‭ ‬ما‭ ‬كان‭.‬

فالحياة‭ ‬الدنيا‭ ‬في‭ ‬العقيدة‭ ‬الإسلامية‭ ‬مرحلة‭ ‬تمر‭ ‬ولا‭ ‬تبقى،‭ ‬وتسر‭ ‬ولا‭ ‬تستمر،‭ ‬فهي‭ ‬كدورة‭ ‬النبات‭ ‬يبدو‭ ‬جميلاً‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬هشيمًا‭ ‬تتناثر‭ ‬مع‭ ‬الرياح،‭ ‬فبحس‭ ‬المؤمن‭ ‬هي‭ ‬دار‭ ‬ممر‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬الحقيقية‭ ‬في‭ ‬الآخرة،‭ ‬عندها‭ ‬لا‭ ‬ينخدع‭ ‬بزينتها‭ ‬وزخارفها،‭ ‬بل‭ ‬يجعلها‭ ‬وسيلة‭ ‬لعمارة‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬وفق‭ ‬المنهج‭ ‬الرباني،‭ ‬ويصبح‭ ‬شاغله‭ ‬الشاغل‭ ‬فيها‭ ‬هو‭ ‬استعمال‭ ‬ما‭ ‬وهبه‭ ‬الله‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬نعم‭ ‬وقدرات‭ ‬فيما‭ ‬يقربه‭ ‬من‭ ‬مولاه،‭ ‬وفيما‭ ‬ينفعه‭ ‬في‭ ‬الآخرة،‭ ‬فكل‭ ‬ما‭ ‬يغرسه‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬صالحة‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬يجد‭ ‬ثمراته‭ ‬في‭ ‬الآخرة،‭ ‬الحياة‭ ‬الحقيقية‭ ‬اللائقة‭ ‬بهذا‭ ‬المخلوق‭ ‬المكرم‭.‬

ومن‭ ‬أراد‭ ‬الجمال‭ ‬الدائم‭ ‬والسعادة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزول‭ ‬والنعيم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينفد‭ ‬فعليه‭ ‬التزام‭ ‬منهج‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬ليرث‭ ‬الجنة‭ ‬في‭ ‬الآخرة‭.‬

مفهوم‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬الإسلام

الموت‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬ليس‭ ‬نقيضًا‭ ‬للحياة‭ ‬الدنيا،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬مكمل‭ ‬لها،‭ ‬فالموت‭ ‬هو‭ ‬نهاية‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا‭ ‬فقط،‭ ‬ولكنه‭ ‬بداية‭ ‬الحياة‭ ‬جديدة‭ ‬وفي‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭. ‬فلقد‭ ‬تعامَلَ‭ ‬الإسلام‭ ‬مع‭ ‬قضيَّة‭ ‬الموت‭ ‬تعامُلاً‭ ‬رشيدًا‭ ‬واضحًا؛‭ ‬ليُطلق‭ ‬رؤية‭ ‬مُؤسِّسةً‭ ‬لنظرة‭ ‬المُسلمينَ‭ ‬للموت،‭ ‬مُؤسَّسةً‭ ‬على‭ ‬عقيدة‭ ‬الإسلام‭. ‬ولمْ‭ ‬يكتفِ‭ ‬بالترهيب‭ ‬أو‭ ‬استخدام‭ ‬الموت‭ ‬فزَّاعةً‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬المبطلون‭ ‬في‭ ‬أقوالهم‭.‬

فالموت‭ ‬ليس‭ ‬فكرةً‭ ‬عاديَّة،‭ ‬بل‭ ‬ليس‭ ‬فكرةً‭ ‬وحسب،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬الحقيقة‭ ‬الأولى‭ ‬والأخيرة،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬الحقائق‭ ‬المُطلقة‭ ‬التي‭ ‬تُسلِّم‭ ‬بها‭ ‬كلُّ‭ ‬نفس،‭ ‬وتراها‭ ‬حاضرةً‭ ‬وتذوقها‭. ‬وللموت‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الرؤى‭ ‬الفلسفيَّة‭ ‬والفكريَّة‭ ‬والأدبيَّة؛‭ ‬فقد‭ ‬كُتب‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬الثقافات‭ ‬وبكلّ‭ ‬اللغات‭. ‬لذلك‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬الموادِّ‭ ‬الثريَّة،‭ ‬وهو‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬الموادِّ‭ ‬التي‭ ‬يتنوَّع‭ ‬فيها‭ ‬تفسير‭ ‬تلك‭ ‬الظاهرة‭ ‬التي‭ ‬تنال‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬جميعًا،‭ ‬ويكون‭ ‬التفسير‭ ‬على‭ ‬حسب‭ ‬الثقافة‭ ‬الغالبة‭.‬

وفي‭ ‬الإسلام‭ ‬لا‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬إنهاء‭ ‬للحياة،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬استمرار‭ ‬للحياة‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬آخر‭ ‬وفي‭ ‬مكان‭ ‬آخر،‭ ‬فهو‭ ‬بوابة‭ ‬لبداية‭ ‬حياة‭ ‬الآخرة،‭ ‬فالموعد‭ ‬الدقيق‭ ‬لوفاة‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يعرفه‭ ‬إلا‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬بالدقيقة‭ ‬وبالثانية‭ ‬مهما‭ ‬حاولت‭ ‬الدراسات‭ ‬والأبحاث‭ ‬أن‭ ‬تطيل‭ ‬عمر‭ ‬الإنسان،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬شخص‭ ‬لا‭ ‬يذهب‭ ‬إلا‭ ‬وقد‭ ‬اكتمل‭ ‬وجوده‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬الموت‭ ‬مخيف‭ ‬ومحزن‭ ‬لأهل‭ ‬الميت،‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬طبيعي‭ ‬لأن‭ ‬الإنسان‭ ‬عدو‭ ‬لما‭ ‬يجهل،‭ ‬فهو‭ ‬يجهل‭ ‬ما‭ ‬سيأتينا‭ ‬من‭ ‬بعده،‭ ‬ومحزن‭ ‬لأهل‭ ‬الميت‭ ‬لأنه‭ ‬فراق‭ ‬الأحبة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬تصبح‭ ‬مؤلمة‭ ‬ومحزنة‭ ‬ومخيفة‭.‬

ولكن‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬يصور‭ ‬لنا‭ ‬وفاة‭ ‬المسلم‭ ‬الطيب‭ ‬الذي‭ ‬فهم‭ ‬معنى‭ ‬وجوده‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬فيقول‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬النحل‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬32‭ (‬الذين‭ ‬تتوفاهم‭ ‬الملائكة‭ ‬طيبين‭ ‬يقولون‭ ‬سلام‭ ‬عليكم‭ ‬ادخلوا‭ ‬الجنة‭ ‬بما‭ ‬كنتم‭ ‬تعملون‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬سورة‭ ‬الفجر‭ ‬‭ ‬الآيات‭ ‬من‭ ‬27‭ ‬إلى‭ ‬30‭ (‬يا‭ ‬أيتها‭ ‬النفس‭ ‬المطمئنة‭ ‬ارجعي‭ ‬إلى‭ ‬ربك‭ ‬راضية‭ ‬مرضية‭ ‬فادخلي‭ ‬في‭ ‬عبادي‭ ‬وادخلي‭ ‬جنتي‭)‬،‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬الآيات‭ ‬توضح،‭ ‬لا‭ ‬بل‭ ‬تمنح‭ ‬الاطمئنان‭ ‬إلى‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يؤمن‭ ‬بهذه‭ ‬العقيدة‭ ‬ويعيش‭ ‬معها‭ ‬ويتعايش‭.‬

لذلك‭ ‬فإن‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬العقيدة‭ ‬الإسلامية‭ ‬فكرة‭ ‬واضحة‭ ‬وحياة‭ ‬أبدية‭ ‬مستمرة‭ ‬وبداية‭ ‬رحلة‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى،‭ ‬فعندما‭ ‬قيل‭ ‬لأحد‭ ‬الأعراب‭ ‬‮«‬إنك‭ ‬ميت‮»‬،‭ ‬فقال‭: ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬بعد‭ ‬الموت‭ ‬؟،‭ ‬فقيل‭ ‬له‭: ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى،‭ ‬فأجاب‭: ‬‮«‬ما‭ ‬وجدنا‭ ‬الخير‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬أفنخشى‭ ‬لقاءه؟‮»‬‭.‬

لذلك‭ ‬كان‭ ‬سيف‭ ‬الله‭ ‬المسلول‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬واثقًا‭ ‬حينما‭ ‬قال‭ (‬جئتكم‭ ‬بقوم‭ ‬يحبون‭ ‬الموت‭ ‬كما‭ ‬تحبون‭ ‬الحياة‭)‬،‭ ‬وهؤلاء‭ ‬أحبوا‭ ‬الموت‭ ‬ليس‭ ‬لأنه‭ ‬النهاية،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬البوابة‭ ‬التي‭ ‬سيدلفون‭ ‬عبرها‭ ‬إلى‭ ‬ملاقاة‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬وإلى‭ ‬الحياة‭ ‬السرمدية‭ ‬وجنة‭ ‬عرضها‭ ‬كعرض‭ ‬السماوات‭ ‬والأرض،‭ ‬ومفتاحهم‭ ‬هو‭ ‬الشهادة‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الله‭ ‬وفي‭ ‬أرض‭ ‬المعركة،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬فإن‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يتوج‭ ‬برضوان‭ ‬الله‭ ‬سبحان‭ ‬وتعالى،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬اليقين‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬فيه‭ ‬أهل‭ ‬غزة،‭ ‬فإننا‭ ‬نرجو‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬أن‭ ‬يحتسبهم‭ ‬كلهم‭ ‬شهداء‭. ‬أما‭ ‬الذين‭ ‬يعتبون‭ ‬على‭ ‬أهل‭ ‬غزة‭ ‬ويفكرون‭ ‬بالحسابات‭ ‬والماديات‭ ‬والربح‭ ‬والخسارة‭ ‬ويجدون‭ ‬أن‭ ‬أهل‭ ‬غزة‭ ‬يضحون‭ ‬ويموتون‭ ‬هم‭ ‬وأولادهم‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬نتيجة،‭ ‬فأعتقد‭ ‬أنه‭ ‬ينبغي‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يعيدوا‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬عقيدتهم‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا