المكلفون في الإسلام على مرتبتين، الأولى: مرتبة العزائم، وهي حين يكون المكلف صحيح البدن، حاضرا غير مسافر، قادرا غير عاجز، وفي هذه الحالة عليه أن يؤدي العبادة بتمام شروطها، وكامل هيئتها، وأما المرتبة الثانية: فهي حين تتغير أحوال المسلم، فيكون عاجزًا بعد أن كان قادرًا، ومريضًا بعد أن كان صحيحًا، وواجدًا بعد أن كان معدمًا، أو مسافرًا بعد أن كان مقيمًا.
إذًا، فالتكاليف في عزائمها ورخصها مرتبطة بأحوال العباد، وحيثما تكون هناك مشقة يكون التخفيف، وتكون الرخصة، ونجد ذلك واضحًا في قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) سورة البقرة / 185.
اليسر إذًا إرادة إلهية على المسلم ألا يدعها أو يعطلها، أو يردها على واهبها سبحانه وتعالى، فمتى كانت هناك ضرورة لأخذها، أخذها المسلم، وشكر الله تعالى عليها، وعند انتفاء الضرورة، فعلى المسلم أن يؤدي العبادات بشروطها كاملة.
ولقد أكد ذلك الله تعالى في آيات أخرى ترفع الحرج عن المسلم، وتحضه على الأخذ بالرخص ذلك لأن الله تعالى يحب من عباده أن يأخذوا بالرخص من مثل قوله سبحانه: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج..) (سورة النور / 61) وأيضًا مثل قوله سبحانه: (ليس على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابًا أليمًا) سورة الفتح / 17. إنه عطاء عظيم من رب كريم حين يرتب سبحانه على الآخذ بالرخص جزاءً عظيمًا جنات تجري من تحتها الأنهار، ليس هذا فحسب، بل يحذر من يعطل هذه الرخص ولا يأخذ بها بالعذاب العظيم، فهل رأيتم إلهًا رحيمًا، إلهًا كريمًا كهذا الإله سبحانه، إنه سبحانه يتلمس الأعذار لعباده ليخفف عنهم التكاليف، وييسر لهم أمور دينهم، فهو جل جلاله، وتقدست أسماؤه وصفاته لا يعامل المريض مثل الصحيح، ولا العاجز مثل القادر، ولا الواجد مثل المعدم.. إنه يعامل عباده بحسب أحوالهم المتغيرة، ولقد مَنَّ سبحانه على رسوله (صلى الله عليه وسلم)، فقال سبحانه: (ألم نشرح لك صدرك (1) ووضعنا عنك وزرك (2) الذي أنقض ظهرك (3) ورفعنا لك ذكرك (4) فإن مع العسر يسرا (5) إن مع العسر يسرا (6) فإذا فرغت فانصب (7) وإلى ربك فارغب (8)) سورة الشرح.
وقال الًعلماء: إن العسر في المرتين، عسر واحد، وأما اليسر، فهو يسران لأن الكلمة حين تنكر تفيد التكثير، وعلى هذا قال العلماء: لن يَغلِبَ عسرٌ يسرين.!.
إن اليسر كما ذكرته الآية (185) من سورة البقرة إرادة إلهية، وأنه سبحانه وتعالى نفى عن ذاته سبحانه إرادة العسر.
إذًا، فاليسر يلقى تأييدًا، ودعمًا لوجستيًا – إذًا صح التعبير – من الله تعالى بينما العسر لا يلقى ذلك الدعم أو التأييد.. لماذا لأن اليسر في الإسلام إرادة إلهية، وليس كذلك العسر!.
والآية التي استشهدنا بها على أن اليسر إرادة إلهية من سورة البقرة إنما جاءت فًي معرض تغير أحوال المسلم، ورغم أن صيام شهر رمضان عزيمة، وأن من أفطر فيه يومًا بغير عذر شرعي لا يكفيه صيام الدهر كله إلا أن رحمة الله تعالى بعباده، ورفقه بهم سبحانه جعلت من التيسير عليهم في رمضان إرادة إلهية يحب الله تعالى من يأتيها ولا يردها على المعطي الأعظم سبحانه، وتصبح كما أن الأخذ بالعزائم طاعة يثاب فاعلها ويأثم تاركها، فكذلك من يأتي بالرخصة له من الثواب فوق تيسير التكاليف عليه، ورحم الله تعالى أمير الشعراء أحمد شوقي حين أجمل سمات الدول الإسلامية في بيت واحد من الشعر في قوله:
الدين يسر والخلافة بيعة والأمر شورى والحقوق قضاء
وانظروا كيف جعل شوقي رحمه الله تعالى أس الدولة في الإسلام اليسر حين قال: الدين يسر والخلافة بيعة، انظروا إليه بثاقب فكره، وعبقريته كيف ربط بين الدين والخلافة لينفي عن الإسلام ما يزعمه الزاعمون، ويروج له العَلْمانيون بأن الإسلام لا علاقة له بالسياسة، والإسلام إنما جاء منهاجًا للحياة، ودعوة واضحة المعالم إلى صراط الله تعالى المستقيم، ففي الإسلام عند الضرورات تباح المحظورات، والمشقة توجب التيسير، وكلما ضاق الأمر اتسع.. قواعد فقهية ذهبية يستعين بها المسلم على الوفاء بما أوجبه الله تعالى عليه من تكاليف شرعية قد يواجه المسلم في أدائها عندما تتغير أحواله، وأحوال الإنسان عرضة للتبدل والتغير.
إذًا، فمن اليسر ألا يدع المسلم نعمة أنعم الله تعالى عليه بها، وأن يتقبلها ويثني على الله تعالى عليها عملًا بقوله تعالى: (ولعلكم تشكرون) التي ختمت بها آية اليسر في الآية الكريمة (185) من سورة البقرة التي ختمت بالشكر لله رب العالمين.
هذا والحمد لله رب العالمين على نعمه التي لا تعد ولا تحصى.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك