يعد الاقتصاد البنفسجي (Purple Economy) من المفاهيم الجديدة في مجال الاقتصاد، ومدخلًا مُهمًّا لترسيخ أبعاد التنمية المستدامة وتحقيق أهدافها، والذي يستخدم المقومات الثقافية التي تمتلكها أي منطقة في العالم لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وخاصة تلك الأهداف المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمجتمعات، والتي تعمل على تحقيق تطلعات الأفراد، ويتحقق بأن تكون الثقافة داعمة للاقتصاد الوطني، وأحد أهم الأدوات التي يمكن توظيفها للخروج من الأزمات الاقتصادية، وخاصة أنه تم توظيفها في عدة مجالات شاملة التعليم والسياحة والتراث والصحة، وغيرها من المجالات التي من خلالها يمكن ربط الاقتصاد بالبصمة الثقافية لعكس تاريخ وعراقة المجتمعات، حيثُ توجد صناعات وطنية قائمة على المقومات الثقافيَّة وتثمينها بصورة اقتصادية، وبما يعمل على تحوُّل الثقافة لتكون محرِّكًا اقتصاديًّا وداعمًا قويًا في تنمية وتنوع الاقتصاد الوطني، لما لها من أثر قوي في إعادة توجيه الاقتصاد، وخلق فرص عمل دائمة وموسمية، باعتبارها القوة الاقتصادية الناعمة. هذا وقد أوضح تقرير الأمم المتحدة لعام 2015 في (البند 36) أهمية البعد الثقافي، حيثُ جاء في نصه «نتعهد بتعزيز التفاهم الثقافي والتسامح والاحترام المتبادل، ودعم روح المواطنة العالمية والمسؤولية المشتركة، ونعترف بالتنوع الطبيعي والثقافي للعالم، ونقر بأن الثقافات والحضارات جميعها يمكن أن تسهم في تحقيق التنمية المستدامة لأنها من عناصرها الأساسية».
ولقد كانت أول إطلالة لمفهوم هذا الاقتصاد بداية القرن الحادي والعشرين، يرجع إلى بداية نظريات الاقتصاد التي نشأت في القارة الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، وتم الانتباه إلى أهمية ثقافات الشعوب بالنسبة إلى الاقتصاد الشمولي، ويعد عام 2001 بداية فعلية لتفعيل الأبعاد الثقافية في إعلان اليونسكو بشأن الحاجة إلى الحفاظ على التنوع الثقافي، وبالرغم من حداثة هذا المفهوم، إلا أنه قد تعددت التعاريف باختلاف المفكرين حوله. والذي يشير إلى الأخذ بعين الاعتبار الاقتصاد الثقافي المستدام، والذي ينعكس تأثيره إيجابيًا على المجتمع، ويعزز الهوية الوطنية والتماسك الاجتماعي، ويتضح أن هذا النوع من الاقتصاد لم يأخذ مجالًا واضحًا من الاهتمام، كبقية الأنواع الاقتصادية، ويعتبر تحالفًا جديدًا بين الاقتصاد والثقافة لوضع لمسات تعطي الطابع الإنساني لمصطلح العولمة المستحدث، والذي يؤكد ضرورة وأهمية توظيف المقومات الثقافية، والعمل على عقد الارتباط أكثر بين أبعاد التنمية المستدامة والتنمية الاقتصادية.
وتنفيذًا للتوجيهات الملكية السامية في البدء لإجراء مشاورات مع السلطة التشريعية والقطاع الخاص والجمعيات وجميع مؤسسات المجتمع المدني بالعمل على صياغة رؤية البحرين الاقتصادية (2050) الجديدة، والتي ستكون مكملة لرؤية المملكة (2030) الرامية لتحقيق مبادئ وأهداف التنمية المستدامة في كل المجالات، حيثُ سترسم ملامح واضحة للتطوير والنمو الاقتصادي، بما يعكس جهود المملكة وحرصها على بناء وجودة حياةٍ أفضل لكل المواطنين، وذلك من خلال تأكيد ترسيخ مبادئ الاستدامة والعدالة والتنافسية، والتي تعكس أبعاد التنمية المستدامة، ويأتي ذلك جنبًا إلى جنب مع تحقيق نمو اقتصادي مرتفع، وتعزيز الاستثمار في الموارد البشرية البحرينية، وبناء قدراتهم الإبداعية من خلال الحث على زيادة المعرفة والابتكار والبحث العلمي في كل المجالات. وكما أشرنا إلى اعتماد الاقتصاد البنفسجي على الثقافة كموروث، فإن أهميته تكمن في الحاجة الماسة إلى خلق للتوجه الثقافي، والسعي نحو جعل الإنتاج يحمل البصمة الثقافية للمجتمع، واعتبار المؤسسات الاقتصادية أداة لنقل الثقافة الوطنية والمحافظة عليها، ونشر الوعي حول ثقافة استهلاك ترتكز على السلع الوطنية، وبذلك تكون قد وفرت الكثير من الفرص خاصة في حال ارتباط التنوع الاقتصادي بالثقافة للسلع والمنتجات والخدمات التي تلزم المجتمع؛ لذا نرى أن ما تواجهه المجتمعات من أزمات اقتصادية تؤثر سلبيًا في الأبعاد الثقافية وتسهم في تهميشها.
وانطلاقًا من التزام مملكة البحرين بالمواثيق الدولية، وتطبيقًا لأهداف التنمية المستدامة في جميع القطاعات الحيوية بالمملكة، والسعي نحو جعل المواطن الخيار الأمثل في سوق العمل، ولا يتحقق ذلك إلا بالتطبيق الأمثل للاستراتيجية التعليمية بالمملكة، والتي من أهم أهدافها تحسين جودة مخرجات التعليم، وربطها بمتطلبات سوق العمل، ويتم من خلال التركيز على تطوير شامل لمكونات العملية التعليمية، وخاصة المناهج الدراسية التي تعتبرُ مرتكزًا رئيسيًا في التعليم؛ لذا فإن أبرز ما تنتهجه المملكة متمثلة في وزارة التربية والتعليم العمل على رفع مستوى التوعية بأهمية ربط الاقتصاد مع الثقافة «مصطلح الاقتصاد البنفسجي» للناشئة، وذلك من خلال التوسع في إدراج ودمج المعارف والمهارات المرتبطة به في المناهج الدراسية سواء المناهج النظرية أو التطبيقية، وزيادة تفعيل دور الأنشطة المدرسية في ربط مفاهيم الاقتصاد البنفسجي، بما يتناسب مع الثقافة ومفاهيمها، وتوظيفها لتوضيح الصورة عن هذا الاقتصاد الذي يعد بيئة خصبة للتفكير الإبداعي والابتكار؛ لذا تكمن أهميّة التعليم بمساهمته بتقدّم المجتمع وتطويره، وجعله أكثر تحضرًا وتقدمًا وازدهارًا، وتعتمد ثقافة أيّ مجتمعٍ بالأساس على تعليم أفراده، كما يُعتَبَر الفرد المتعلّم الأكثر إدراكاً حول أهمية التخلّص من التقاليد غير السليمة، والتقليل من التأثيرات السلبية في المجتمع، هذا بالإضافة إلى أنّ التعليم هو الطّريق ذو الصبغة المستدامة للوصول إلى عملٍ منتج ذي فائدة، ويساعد على أن يعمّ السلام والأمن في المُجتمعات.، كذلك فإن لمؤسسات التعليم العالي دورًا حيويًا في العمل على جودة مخرجات التعليم وتشجيع البحوث والدراسات العلمية المتعلقة باقتصاديات الثقافة وعملياتها المرتبطة بالواقع.
ولابد من الإشارة إلى أن المجتمع البحريني بمختلف أطيافه ومؤسساته المدنية يسعى دائمًا الى توحيد الجهود وتحقيق التنمية في ظل المحافظة على مقوماته الثقافية الأساسية، حيثً يمتلك ثروات ثقافية هائلة انطلاقًا من المحافظة على القيم الإسلامية والإنسانية والوطنية، والعمل على احترام العادات والتقاليد والتنوع الثقافي والوحدة الوطنية. وللمحافظة على الهوية الوطنية يتوجب الحفاظ على الموروث الثقافي والفكري من الاندثار، وتعدً الثقافة من أهم الثوابت الرئيسية في المسيرة التنموية الوطنية سواء كان على صعيد الرؤية الاقتصادية (2030) أو الرؤية الجديدة (2050) التي يتم التخطيط إليها وفق التوجيهات الملكية، والتي تؤكد الانفتاح على الحضارات، والمشاركة في بناء المجتمع البحريني واستمرارية تطوره ثقافيًا واقتصاديًا، مما يسهم في تطوير ثقافة السلع والإنتاج لتحقيق التنمية المستدامة من خلال تعزيز الإمكانات الثقافية للسلع والخدمات في مملكة البحرين، والتوجه نحو عدم الاقتصار على فئة واحدة من المستهلكين، إنما استهداف فئات عدة، وضرورة اعتماد رعاية العمل كعنصر لا غنى عنه في رفاهية الإنسان ومستقبله.
ومن خلال ما تقدم يتبين لنا أن تقدم الأمم لا يكتمل إلا بتوفير عنصر استدامة المحافظة على مقومات الهوية الوطنية، مهما بلغت التحديات التي تواجهها الدول، حيثُ يجب أن يراعي هذا النوع من الاقتصاد الشكل الحضاري الذي يتماشى ومقومات المجتمع ويثمن ثقافته وعاداته وتقاليده، دون المساس والإخلال بأسسه أو بنيته، ويمكن ذلك من خلال إجراء دراسات بحثية مكثفة حول التركيبة الثقافية للمجتمع، للوقوف على تثبيت قيم الهوية الوطنية وضمان استدامتها، خصوصا أننا نعيش في عالم سريع المتغيرات التي تؤثر في أفكار وسلوكيات الأفراد، وبالتالي تؤثر في ثقافتهم، وكذلك فإن دمج القطاع التعليمي بكلٍّ ما يعتبر ضرورة هو خطوة تبرز فاعلية التجارب الناجحة التي تعمل على التقارب النوعي، وتظهر دور النخبة من المفكرين والمبدعين في مجتمعنا، مما سوف يسهم بالتأكيد في بناء تاريخ وحضارة الوطن، إذ إن الاهتمام بهذا الاقتصاد هو بمثابة فتح آفاق اقتصادية واسعة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالموروث البحريني وتاريخه الذي يمثل مرجعًا مستدامًا للأجيال المستقبلية.
{ مختصة في فلسفة الدراسات
البيئية وآليات التنمية المستدامة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك