في معترك القوانين والأعراف الاجتماعية، لا يزال سن الزواج موضوعا يثير الجدل، حيث يتأرجح بين التقاليد الثقافية والمعطيات العلمية. سنسلط الضوء في الأسطر القادمة على أهمية وضرورة الاعتماد على المعرفة العلمية في صياغة تشريعاتنا الأسرية بشكل عام، وعلى سن الزواج المسموح به قانونا بشكل خاص، وتبيان دور الفص الجبهي في الدماغ البشري وكيفية تأثيره في القرارات الحياتية الأساسية.
يعد الفص الجبهي مركز القيادة للشخصية والسلوك الإنساني، وهو يقع في الجزء الأمامي من الدماغ. هذا الجزء من الدماغ، الذي لا ينضج حتى العشرينيات المبكرة وحتى منتصفها، يؤثر بشكل حاسم على الوظائف التنفيذية مثل التخطيط للمستقبل، والتحكم في الاندفاعات، وتقييم العواقب. وهو ما يعني أن القدرات العقلية للتقييم والتحليل والتخطيط لا تصل إلى مرحلة النضج الكامل حتى ذلك السن. التسرع في اتخاذ قرارات مصيرية، قبل اكتمال نمو الفص الجبهي يمكن أن يعرض الأفراد لمخاطر نفسية واجتماعية غير محسوبة..
تقييم قوانين الزواج والحاجة الملحة إلى مواكبة المعرفة العلمية لحماية حقوق الطفل وفقًا لأحكام المادة 20 من قانون الأسرة رقم 19 لسنة 2017، يمنع زواج الفتاة التي تكون أصغر من ستة عشر عاما ميلادية، ما لم يتم الحصول على إذن من المحكمة الشرعية بعد التحقق من ملاءمة الزواج. بمعنى، لا يجوز زواج الفتاة قبل بلوغها سن الستة عشر عامًا وفقًا للمادة القانونية المذكورة.
وفي حال تقدم شخص بطلب الزواج من فتاة لم تتجاوز سن الستة عشر عاما، تلتزم المحكمة الشرعية بدراسة الحالة بعناية والتحقق من ملاءمة الزواج. ومن ثم البث بالموافقة أو الرفض.
وفقا لمنظمة اليونيسيف (UNICEF)، يعتبر الطفل الشخص الذي لم يبلغ سن الثامنة عشرة عاما. يهدف هذا التعريف إلى حماية حقوق الأطفال وضمان سلامتهم ورفاهيتهم.
من الواضح أن بعض التشريعات التي تحدد سن الزواج تعتمد على أسس تقليدية وثقافية بدلاً من الاستناد إلى الأدلة العلمية المتقدمة في مجال العلوم العصبية. وبالتالي، يتطلب هذا التباين بين القانون والمعرفة العلمية إعادة النظر وتقييم القوانين المتعلقة بسن الزواج لضمان أن تكون القرارات المتعلقة بالزواج مستنيرة ومبنية على أدلة علمية كافية.
الزواج في سن مبكرة يعرض الأفراد لتحديات ومسؤوليات قد لا يكونوا مجهزين لمواجهتها بشكل كامل، مما يمكن أن يؤدي إلى عواقب طويلة الأمد على حياتهم الشخصية والاجتماعية.
لذلك، من الضروري الاستناد إلى المعطيات العلمية، في تحديد السن المسموح به للزواج لضمان أن يتخذ الأفراد قراراتهم بشأن الزواج بناءً على نضج عقلي وجسدي. ويمكن للبحوث العلمية أن تسهم في توضيح التأثيرات النفسية والاجتماعية للزواج المبكر، بما في ذلك المخاطر المحتملة للصحة والتعليم والتنمية الشخصية.
باستنادنا إلى المرجعية العلمية، يمكن للقوانين والسياسات أن تسعى إلى تعزيز رفاهية الأفراد وضمان حقوقهم،
الزواج ليس مجرد علاقة اجتماعية، بل هو ارتباط يقوم على أساس النضج العاطفي والوعي الذهني الكامل. إنه التزام جوهري يتطلب تفكيرًا عميقًا في المسؤوليات المرتبطة به وله آثار ممتدة على مدى الحياة. لذا، تجاهل التطور النفسي والعقلي عند تحديد العمر المناسب للزواج يعد إهمالا لأساسيات الشخصية الإنسانية وللعناصر الأساسية للنضج العاطفي والفكري المطلوب.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية للفشل في العلاقات الزوجية
إن الفشل في العلاقات الزوجية يمكن أن يكون له تبعات اقتصادية واجتماعية واسعة النطاق. هذه التبعات لا تقتصر فقط على الأزواج وأسرهم، بل تمتد إلى المجتمع ككل. الطلاق، على سبيل المثال، يحمل معه ليس فقط الألم النفسي والعبء العاطفي، بل يمكن أن يؤدي أيضًا إلى تدهور الوضع المالي للأفراد المعنيين. غالبًا ما يؤدي هذا التدهور إلى زيادة الاعتماد على البرامج الاجتماعية الداعمة ويمكن أن يعمق الفجوة الاقتصادية.
بالإضافة إلى الآثار المالية، يجب النظر بجدية إلى الأثر العميق على الصحة النفسية والتطور العاطفي للأطفال. الناتجين من هذه الزيجات، يمكن للتوترات والضغوط الأسرية أن تسبب مشاكل نفسية مستمرة للأطفال، مما يعيق نموهم العاطفي والنفسي. هذه الآثار السلبية قد تحد من قدراتهم على الازدهار في المستقبل وتقلل من فرصهم للنجاح في حياتهم الشخصية والمهنية.
لذا، فإن الاهتمام بالجوانب القانونية والعلمية عند وضع تشريعات الزواج يأتي ليس فقط كوسيلة لحماية الأفراد من التسرع في اتخاذ قرارات قد تؤدي إلى عواقب وخيمة، بل أيضا كخطوة استباقية للحد من الأعباء الاقتصادية والاجتماعية التي قد تنجم عن العلاقات الزوجية الفاشلة.
ويتطلب ذلك تعاونا بين علماء الأعصاب وعلماء النفس والاجتماع، والمشرعين، والمجتمع لضمان أن تكون القوانين مدعمة بالأدلة العلمية ومحدثة بما يتناسب مع الفهم الحديث لكيفية عمل وصحة الدماغ البشري.
تعزيز الوعي الاجتماعي من خلال الأسرة والتعليم
الأسرة والمؤسسات التعليمية تشكل الركائز الأساسية لبناء مجتمع متنور يدرك أهمية النمو العصبي وتأثيره الجوهري على السلوك وصنع القرار. لكي ننمي هذا الوعي بفعالية، يجب:
* تطوير برامج تعليمية متخصصة.
* تصميم وتنفيذ برامج تثقيفية مدروسة تستهدف النمو الذاتي والوجداني، بما يعزز من قدرات الشباب على التعامل مع التحديات الحياتية ويمكنهم من فهم تأثيرات النمو العصبي على اتخاذ القرارات.
* تأكيد الدعم المستمر وتوفير بيئة داعمة ترافق الشباب عبر مراحل نموهم المختلفة، مؤكدين أهمية الاستشارة والتوجيه في قضايا مثل الزواج وغيرها من القرارات الحياتية المهمة.
* تفعيل دور الأسرة كشريك أساسي من خلال تعليم الأبناء كيفية التفكير النقدي والتخطيط السليم للمستقبل.
وبتحقيق النقاط سالفة الذكر، يمكننا ضمان تنشئة جيل قادر على تحمل المسؤولية ومواجهة التحديات بوعي ونضج..
في الختام، لا بد من تأكيد ضرورة أن يكون قرار الزواج نابعًا من دراسة متأنية وتفكير عميق. مستند إلى فهم دقيق لأبعاد الحياة المشتركة، والمسؤوليات الناجمة عنها، إن النضج ليس مجرد نتيجة لبلوغ سن معين أو الوصول إلى مرحلة النمو الجسدي فحسب؛ بل هو عملية متواصلة تستلزم خبرات حياتية متنوعة وزمنًا كافيًا لتنمية الفطنة والقدرة على اتخاذ قرارات مدروسة. لذا، تعتبر التعديلات الواعية في تشريعاتنا الأسرية خطوات حتمية نحو مستقبل يحتفي بالحياة الأسرية الراقية والصحية، وبما يسهم في تشكيل مجتمعات قوية تقوم على أسس واعية ومدروسة.
{ محامية ومستشارة قانونية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك