منذ بدأت الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023، على غزة خرج مئات الآلاف من المتظاهرين إلى شوارع المدن الأوروبية والأمريكية، مثل، «لندن»، و«باريس»، و«برلين»، و«روما»، و«واشنطن»، و«نيويورك»؛ للتعبير عن غضبهم، ليس فقط من تصرفات إسرائيل التي تنتهك القانون الدولي، لكن أيضًا لإدانة وهن ردود الفعل الصادرة عن حكوماتهم، التي رفض العديد منها انتقاد جرائم وانتهاكات قوات الاحتلال بحق المدنيين الفلسطينيين.
وعلى الرغم من إعراب دول، مثل «إسبانيا»، و«بلجيكا»، و«إيرلندا»، عن تعاطفها مع المدنيين الفلسطينيين المحاصرين داخل غزة، ودعوتها إلى إحلال السلام في المنطقة، وتنديد «جوزيب بوريل»، منسق السياسة الخارجية في «الاتحاد الأوروبي»، بإسرائيل، وإقراره بما آلت إليه عملية السلام في الشرق الأوسط الآن؛ فقد رفض كبار المسؤولين وصناع القرار في «بروكسل»، والعواصم الأوروبية الأخرى الأكثر نفوذاً، نداءات شعوبهم، ورفضوا مساءلة إسرائيل، سواء على المستوى الثنائي، أو أمام التجمعات العالمية، مثل «مجلس الأمن»، أو «محكمة العدل الدولية».
وفي هذا الصدد، رأي «جيمس لينش»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، أن إخفاقات «ريشي سوناك»، رئيس الوزراء البريطاني، و«إيمانويل ماكرون»، الرئيس الفرنسي، و«أولاف شولتز»، المستشار الألماني، و«أورسولا فون دير لاين»، رئيسة المفوضية الأوروبية؛ قد أضرت بشدة «بسمعة الدول الأوروبية التي طالما اعتزت بها»، كمدافع عن حقوق الإنسان، والقانون الدولي، مؤكدا أن المشاعر العامة تجاه دور هذه الدول، كقوة إيجابية في الشرق الأوسط، قد «تحطمت»؛ بسبب طبيعة تعاملها مع الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، مشيرا إلى أن أوروبا وأمريكا أظهرتا ازدواجية صارخة في تعاملها مع الفلسطينيين، بالمقارنة مع الأوكرانيين.
وفي ظل القوة الأمريكية الطاغية بمختلف أنحاء العالم؛ دأبت الدول الأوروبية لفترة طويلة على استخدام «القوة الناعمة»، للإبقاء على نفوذها؛ ثقافيا، واقتصاديا، وسياسيا. ويتجلى نجاح هذا النهج في العلاقات الدولية، من خلال «مؤشر القوة الناعمة العالمي لعام 2024»، الصادر عن مؤسسة «براند فاينانس»، حيث احتلت «بريطانيا» المركز الثاني، و«ألمانيا» الخامس، و«فرنسا» السادس، و«سويسرا» الثامن، و«إيطاليا» التاسع، و«إسبانيا»، الحادي عشر، «السويد»، الثاني عشر، و«هولندا»، الرابع عشر.
وعلى وجه الخصوص، جاءت «سويسرا»، في المركز الأول عالميا فيما يخص «الاستثمار ومواقع العمل»، و«ألمانيا»، بالنسبة إلى المكان الأفضل لشراء المنتجات والخدمات، و«بريطانيا»، للجامعات والدراسة، و«إيطاليا»، للسياحة. ووفقا لـ«تيموثي جارتون آش»، و«إيفان كراستيف»، و«مارك ليونارد»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، فإن أوروبا تمتلك «احتياطيات وفيرة من القوة الناعمة»، ولا تستطيع الدول الأخرى منازعتها في هذا الشأن.
وفي حالة «الاتحاد الأوروبي»، تحققت القوة الناعمة الذي يتمتع بها من خلال «الاستثمارات الضخمة المخصصة للتنمية»، و«الدعم المالي والسياسي النشط لمنظمات المجتمع المدني». وعلى الصعيد الدولي، تعد «بروكسل»، المانح الأول عالميًا لبرامج المجتمع المدني. وتعهدت بتقديم أكثر من 1.5 مليار يورو بين عامي (2021-2007)، كجزء من برنامج أوروبا العالمية. وأوضح «لينش»، أن هذه المبادرات توفر «دعمًا للأهداف الاستراتيجية الأوروبية»، مع المشاركة في مشاريع الإصلاح الاقتصادي والمجتمعي والسياسي، بمناطق، مثل الشرق الأوسط، مما يتيح لأوروبا «إمكانية الوصول إلى المجتمعات والاطلاع على وجهات نظر الشعوب».
ومع ذلك، فإن السياسات التي انتهجتها الحكومات الأوروبية أثناء العدوان على غزة، كانت سببا في توتر هذه الروابط إلى حد كبير. ورأت «سارة نيومان»، في مجلة «مودرن دبلوماسي»، أن هذه الحرب «بددت آمال أوروبا في القيام بدور سلمي وبنَّاء في الشرق الأوسط»، من خلال الكيفية التي أوقفت بها العديد من الدول عمدا علاقاتها مع المنظمات المدنية، فضلاً عن «المعايير المزدوجة»، التي اتخذتها حكومات بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا تجاه «حقوق الإنسان»، و«القانون الدولي»، والتي تم التمسك بها في حالة «أوكرانيا»، والتخلي عنها في حالة «فلسطين».
وفي حالة أوكرانيا، أدانت «الدول الأوروبية»، روسيا بشدة، وقيّدت وصولها إلى أسواقها المالية من خلال استخدام عقوبات واسعة النطاق، وتقديم مساعدات عسكرية واقتصادية وإنسانية للأوكرانيين بقيمة 96 مليار دولار، واتهام «موسكو»، بارتكاب جرائم حرب أمام «المحكمة الجنائية الدولية». وبعد مرور عام ونصف، دعمت هذه الدول نفسها، العدوان الإسرائيلي -حتى في ظل استمرار تزايد أعداد الشهداء من المدنيين – وترددت في إصدار أي انتقادات قوية لإسرائيل، أو دعوتها إلى وقف هجماتها العسكرية.
وفي تناقض واضح مع التمويل الهائل المقدم للتواصل مع المنظمات الأوكرانية اعتبارًا من عام 2022 فصاعدًا؛ اتخذت «المفوضية الأوروبية»، عند اندلاع الحرب على غزة في2023 – إلى جانب «ألمانيا»، و«السويد»، و«سويسرا»، و«فنلندا»، و«الدنمارك»، و«النمسا» – قرارات لمراجعة أو تعليق تمويلها لمنظمات المجتمع المدني الفلسطينية، وفقًا لمزاعم أدانتها «منظمة العفو الدولية»، ووصفتها بـ«الادعاءات التي لا أساس لها من الصحة»، بشأن «تحويل التمويل إلى المنظمات الإرهابية». وفي ذلك الوقت، حذرت «العفو الدولية»، من أن «مصداقية الحكومات الأوروبية»، تجاه القضية الفلسطينية «تضررت بسبب القيود التي فرضتها على الحق في حرية التعبير، والتجمع للأشخاص والجماعات، التي تحتج على الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الإنساني الدولي».
وبالنظر إلى كيفية اعتماد «القوة الناعمة»، للدول الأوروبية على قوة تأثيرها الثقافي والتزامها، المفترض، بالقانون الدولي، ومبادئ الديمقراطية، وحقوق الإنسان؛ فإن فشلها في اتخاذ موقف أخلاقي بشأن الحرب، يوجه ضربة قاسمة إلى سمعتها ومكانتها العالمية. وأشار «مارتن كونيشني»، من «مشروع الشرق الأوسط الأوروبي»، إلى مدى «صدمة» المجتمع الدولي – باستثناء دول الغرب – حيال «الدعم الأوروبي للعدوان الإسرائيلي» على الفلسطينيين.
وفي العالم العربي على وجه الخصوص، رأى «لينش»، أن «الأوروبيين عادة ما يتبنون سياسة ازدواجية المعايير»، ما جعل استخدامهم لقوتهم الناعمة، يمثل «إشكالية لا يمكن معالجتها». وعلى النقيض من رفض كل من «ألمانيا»، و«فرنسا»، الانضمام إلى غزو العراق من قبل «الولايات المتحدة»، و«بريطانيا» عام 2003، واتخاذهما «مواقف إيجابية»، حيال تلك القضية، فقد أشار «لينش»، إلى أنه في حالة الحرب الإسرائيلية على غزة، كان الاتحاد الأوروبي «متحدا»، خلف الموقف الأمريكي، وظهرت عواقب هذا الموقف المتخاذل في الطريقة التي أصبحت تنظر بها الشعوب العربية الآن إلى الدول الأوروبية.
وأظهر استطلاع للرأي أجراه «المركز العربي»، في فبراير 2024، شمل 8000 شخص من 16 دولة عربية، مدى صدمة مواطني المنطقة من ردة الفعل الأوروبية حيال حرب غزة. وبالنظر إلى الكيفية التي يُنظر بها إلى دعم «الولايات المتحدة»، باعتباره السبب الرئيسي لاستمرار العدوان، فليس غريبا أن يرى 94% من المستطلع آراؤهم أن رد الفعل الأمريكي كان سيئًا للغاية بنسبة اقتربت من (82%). وفي حالة الدول الأوروبية، كانت النظرة إلى ردود الفعل «فرنسا»، «سيئة»، أو «سيئة للغاية»، بنسبة (79%)؛ أما «المملكة المتحدة»، و«ألمانيا»، فقد كانت «سيئة»، بنسبة (78%). ومع ارتباط مواقف هذه الدول تجاه القضية الفلسطينية، ارتباطا وثيقا بـ«واشنطن»، فقد أشارت نتائج الاستطلاع إلى انهيار الثقة من جانب الشعوب العربية فيها بشأن تحديد مصير الدولة الفلسطينية المستقبلية، بنسب تراوحت ما بين 65% و94%.
وفي ضوء هذه الأرقام، رأى «لينش»، أن «حالة الرفض المجتمعي» في مختلف أنحاء العالم العربي، حيال ردود الفعل الغربية على حرب غزة، قد «أدت إلى تغيير جذري في سياق العلاقات الأوروبية مع المجتمع المدني العربي»، حيث «لن يتم معاملة الأوروبيين كمحاورين مهمين طالما أنهم باتوا لا يضيفون أدنى قيمة إلى جهود المجتمع المدني»، وخير مثال على ذلك، فقدان الثقة في الدول الغربية التي تدافع عن إطلاق سراح السجناء السياسيين، خاصة وأن تدخلها المستقبلي قد «يعرض قضايا هؤلاء السجناء للخطر، جراء اعتمادها على معايير مزدوجة».
وفي هذا الصدد، أوقفت «ألمانيا»، تمويل مشروع مناهضة الاتجار بالنساء، الذي تنفذه «مؤسسة قضايا المرأة»، في مصر؛ اعتراضا على توقيع رئيسة مجلس أمناء المؤسسة على بيان يدعو إلى وقف الحرب على غزة ومقاطعة البضائع الإسرائيلية، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، في حين جمدت «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية»، التعاون مع حكومة «برلين»، ولعل هذا الأمر هو أحد الأمثلة البارزة التي تشير إلى توقعات تآكل النفوذ التاريخي لأوروبا؛ بسبب ردود فعلها على الحرب الإسرائيلية.
ولمعالجة هذا الفشل، ذكر «لينش»، أن «الخطوة الأولى»، تتلخص في «الاعتراف بالمشكلة»، والكيفية التي ظهرت بها سياسات الدول الأوروبية عند التعامل مع قضايا الشرق الأوسط، حيث رأى أن إعادة بناء أوروبا لسمعتها أمام المجتمع المدني في المنطقة، «ستتطلب محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها للقانون الدولي»، و«تقديم الدعم الثابت لمؤسسات، مثل محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية». وعلى الرغم من اعترافه بأن تحول هذه الدول إلى الدعم الكامل لهذه المؤسسات، «يبدو احتمالًا بعيدًا في الوقت الحاضر»، إلا أنه حث المانحين الأوروبيين للمنظمات الفلسطينية على إعادة النظر في شروطهم الخاصة بتقديم المساعدات».
من جانبهم، رأى «جارتون آش»، و«كراستيف»، و«ليونارد»، إلى أن أوروبا تبدو وكأنها «عالقة بين استراتيجيتين متعارضتين»، بشأن كيفية تفاعلها مع بقية دول العالم، حيث ترغب حكوماتها من ناحية في «التمسك بفكرة عالم ثنائي القطب من الديمقراطيات، مقابل الأنظمة الاستبدادية الراهنة»، حيث سيكونون بذلك شركاء مقربين للولايات المتحدة، ولكنهم يتعهدون من ناحية أخرى أيضًا بتبني نوع من «الاستقلال الاستراتيجي» الخاص بهم والذي من «المرجح أن يؤدي إلى تقسيم أوروبا بدلاً من توحيدها».
على العموم، خلصت «نيومان»، إلى أن رد فعل الدول الأوروبية حيال تدمير إسرائيل لغزة، «كشف عدم أهمية أوروبا الجيوسياسية في الشرق الأوسط»، ومدى فشل حكوماتها في حل المشكلة، واتخاذ الموقف الأخلاقي الصحيح للتضامن مع حقوق الإنسان للمدنيين الفلسطينيين. ولهذا السبب، ظهرت «المعايير المزدوجة»، بشكل بارز بالتزامن مع قدرة هذه الدول على حماية الأوكرانيين وتزويدهم بوسائل القوة.
علاوة على ذلك، رأى «لينش»، أن فشل هذه الدول في الالتزام بالواجب الأخلاقي المتمثل في فضح انتهاكات إسرائيل ضد الفلسطينيين، لن يعني فقط أن منظمات حقوق الإنسان «قد تبحث عن تمويل خدماتها من مصادر أخرى»، بل أصبح له «تأثير ملموس على تهاوي نفوذ الأوروبيين في الشرق الأوسط». ورأت «بريجيت هيرمانز»، من «جامعة جنت»، أنه مع استمرار «بروكسل»، في رفض انتقاد إسرائيل، وتقديم الدعم لها، فإن قوتها الناعمة سوف تتلاشى بلا أدنى شك.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك