عندما كنتُ مسؤولاً عن جهاز البيئة، كانت من ضمن مهماتي ومسؤولياتي تطوير محمية ومتنزه العرين من حيث إعادة تأهيل بعض الموائل الصحراوية الفطرية الطبيعية، إضافة إلى حماية وإكثار بعض الأنواع المستوطنة في البحرين وفي الخليج العربي من النباتات الصحراوية والحيوانات كغزال الريم والمها العربية وغيرهما.
وقد كانت محمية العرين تتميز بعدة خصائص فريدة بالنسبة إلى المواقع البرية الأخرى في البحرين، وبالتحديد أنها تحولت إلى محطة «ترانزيت»، ومحطة توقف لعدة أنواع من الطيور المهاجرة كالهدهد والبط والبجع، إما للراحة وقضاء وقت قصير للتزود بوقود الأكل والماء، والتمتع بالسباحة في البحيرات والواحات الموجودة في عمق الصحراء، وإما للتكاثر بسبب وجود الأمان وعوامل الهدوء والاستقرار والغذاء والماء في هذه المحمية الواسعة.
وبوجود محمية العرين على أرض البحرين وتوفير وسائل الأمان والغذاء والماء فيها، أصبحت البحرين تؤدي دورها وواجبها على المستوى الدولي في حماية إحدى محطات توقف الأنواع المهاجرة من الطيور المائية وغير المائية بصفة خاصة. كما أصبحت البحرين بذلك تفي بالتزاماتها الدولية بالمحافظة وحماية خط سير ورحلة ومواقع نزول هذه الأنواع المهاجرة، حسب معاهدة الأمم المتحدة تحت مسمى «الأنواع المهاجرة من الحيوانات البرية» ( Conservation of Migratory Species of Wild Animals).
كما إننا عندما نشاهد هذه الأنواع المهاجرة على أرض البحرين في محمية العرين في الوقت نفسه في كل سنة، وفي المكان المحدد المعروف في كل موسم، فذلك يُشعرنا بنوعٍ من الراحة والطمأنينة بأن كوكبنا وأن «البيئة» مازالت بخير، وتتمتع بصحة وعافية، وأن الأنظمة البيئية تعمل بشكلٍ منضبط وفاعل وسليم. فهذه الأنواع من الحيوانات المهاجرة عبر الحدود الجغرافية للدول تقيس ضغط دم مكونات البيئة، كما أنها في الوقت نفسه تعمل كالترمومتر، أو مقياس حرارة جسم البيئة، وأي خلل في حركتها ووقت وموعد وصولها يشير إلى مرض البيئة وإصابتها بوعكة صحية، من حيث المشكلات في حرارة جسم البيئة والتعقيدات في ضغط دم عناصر البيئة.
فمن المعروف أن الأنواع المهاجرة جواً، وبراً، وبحراً تنتقل عبر رحلة الهجرة من منطقة إلى منطقة أخرى بحثاً عن الهواء العليل والمناخ المعتدل، والغذاء الوفير، والماء العذب الزلال، إضافة إلى الشعور بالراحة والأمان والاطمئنان، ولكن في كثير من الأحيان تكون هذه المناطق عابرة للحدود الجغرافية للدول فتكون تحت سيادة وسيطرة دولة أخرى، أي أن هذه الأنواع أثناء رحلتها وهجرتها ودورة حياتها الشتوية والصيفية تحط رحالها في أكثر من بلدٍ واحد، مما يعني أن على كل هذه الدول التي تقف فيها هذه الأنواع المهاجرة حماية هذه المناطق ورعايتها، والمحافظة عليها من ناحية وجود الأمن والأمان، ووجود الغذاء والماء، وأي تدهور كمي أو نوعي أو أمني في بيئات ومناطق هذه الأنواع المهاجرة يؤدي مباشرة إلى خلل في رحلتها ومسيرتها وإكمال دورة حياتها.
ولذلك في الواقع نجد أن الأنواع من الحيوانات تجد صعوبات وعراقيل وتحديات كثيرة أثناء هجرتها بين الدول، فتؤثر هذه المعوقات على مسيرتها ورحلتها الدورية، وتؤدي في كثير من الحالات إلى عدم اكتمال دورة حياتها، وموتها في منتصف رحلة هجرتها. فعلى سبيل المثال، هناك صعوبات تواجه نوعاً فريداً ونادراً من الطيور يُطلق عليها «الخناق الرمادي». وهذا الطائر الجميل يوجد في منطقة الخليج العربي فقط، ويمتاز بلونه البني الفاتح والريش الأسود الذي يغطي جانبي رأس الذكر، حيث يتكاثر الخناق الرمادي في جنوب العراق وإيران ويهاجر لقضاء فترة الشتاء في شمال وغرب مملكة البحرين وكذلك المنطقة الشرقية والطائف في المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج. وفي البحرين نجد أن المنطقة التي يحط بها ويتوقف عندها أثناء الهجرة هي بساتين النخيل القديمة، وبخاصة في منطقتي مقابه وسار، ولكن مع التمدد العمراني وإزالة غابات النخيل، تقلصت الأعداد بدرجة كبيرة، مما يهدد استمرار وجوده على أرضنا.
وقد أكد هذه الحقيقة التي تهدد الخط الملاحي للأنواع في الجو، والبر، والبحر في مختلف دول العالم، التقرير الأممي المنشور من «مجلس التنوع الحيوي»، حيث نُشر الإصدار الأول تحت عنوان: «حالة الأنواع المهاجرة على المستوى الدولي» في 12 فبراير 2024، وتم تدشينه في الاجتماع (14) للدول الأطراف في المعاهدة في أوزبكستان. ويركز التقرير على 1189 نوعاً تحت قائمة المعاهدة، حيث إن واحداً من كل 5 أنواع مهدد بالانقراض، أو قرابة 22%، كما أن 44% منهم يعانون من انخفاض في العدد. وهناك عدة تقارير حول تقييم التنوع الحيوي على كوكبنا، منها التقييم للتنوع الحيوي في عام 2019، حيث استنتج أن مليون من إجمالي قرابة 8 ملايين نوع يقعون تحت خطر الانقراض، إضافة إلى تقرير صندوق الحياة البرية الدولي في عام 2022 الذي أفاد بأن أعداد الأنواع البرية الفطرية انخفضت بنسبة 69% خلال الخمسين عاماً الماضية.
وهناك عدة أسباب لهذا الانخفاض الشديد والمستمر في أعداد الأنواع من الحيوانات على مستوى كوكبنا، منها تدهور البيئات التي تعيش فيها، أو التي تهاجر إليها من الناحيتين، أولاً من ناحية انكماش مساحتها، وثانياً من ناحية تلوثها بالمواد الكيميائية، أو التلوث الضوئي والضوضائي، كذلك الصيد الجائر والتغيرات في درجة حرارة الأرض، إضافة إلى مشكلة اصطدام الطيور في زجاج الأبنية العالية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، مات أكثر من 1000 طائر في ليلة واحدة فقط عندما اصطدمت في مبنى زجاجي (McCormick Place Lakeside Center) في مدينة شيكاغو الأمريكية في 5 أكتوبر 2023.
ولذلك فحماية الأنواع من الحيوانات المهاجرة والمستوطنة بحاجة إلى جهود وتنسيق دولي مشترك، وتعاون بين كل دول وشعوب العالم على منع كل العوامل التي تؤدي إلى انخفاض أعدادها، فلهذه الأنواع المهاجرة فوائد ومنافع كثيرة تنعكس على كوكبنا وعلى جميع شعوب العالم، فهي المؤشر الحيوي المشهود للجميع على سلامة وفاعلية الأنظمة البيئية للكرة الأرضية، كما هي الدليل العملي الذي يشير إلى أن كوكبنا عليل ومصاب بالأسقام، أو أنه سليم وخال من الأمراض.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك