من المقرر أن تشهد «الولايات المتحدة» في نوفمبر2024، تكرارا لمشهد الانتخابات الرئاسية المضطربة والمثيرة للجدل التي جرت قبل أربع سنوات. ومع اختتام معظم «الولايات»، انتخاباتها التمهيدية للحزبين الديمقراطي والجمهوري، بعد ما يُسمى بيوم «الثلاثاء الكبير» في 5 مارس2024، تم التأكيد رسميًا على اقتراب الرئيس الحالي «جو بايدن»، والسابق «دونالد ترامب»، من سباق جديد للبيت الأبيض في الانتخابات التي ستُعلن نتيجتها في يناير 2025.
وكما كان الحال في عام2020، فمن المتوقع أن تحتدم المنافسة، حيث يتقدم «ترامب»، حاليًا في استطلاعات الرأي الوطنية. ومع ذلك، فإن الانقسام الشديد والفوضى التي صاحبت الانتخابات الماضية، والتي اشتهرت برفضه قبول النتيجة وحثه الملايين من أنصاره على الاعتراض على هذا التصويت؛ هو ما يبرر توجس معظم الناخبين الأمريكيين والمراقبين الدوليين من كيفية سير العملية الانتخابية.
ومع تورط الرئيس السابق في مشاكل قانونية غير مسبوقة بالنسبة إلى مرشح رئاسي أمريكي، والتشكيك في قدرة «جو بايدن»، على تولي المنصب بسبب عمره البالغ 81 عامًا، وكونه أكبر رئيس أمريكي على الإطلاق، يبدو أن «الولايات المتحدة»، وحلفاءها يواجهون آفاقًا قاتمة، حيث يثير هذا الوضع تساؤلات بشأن قدرة الرئيس الجديد على قيادة البلاد، والتصدي للتحديات الداخلية والخارجية بنجاح.
ووفقا للعديد من المراقبين، هناك العديد من الأسباب الدالة على افتقار كلا المرشحين للقدرة على تولي الرئاسة مرة أخرى في يناير2025. ففي حالة «ترامب»، اعتبارًا من بداية مارس 2024، واجه مرتين إجراءات عزله، و91 تهمة في أربع قضايا جنائية، وحكم بتغريمه 450 مليون دولار، بالإضافة إلى التساؤلات حول شرعية حملته بأكملها، نظرًا إلى اتهامه بارتكاب أعمال تمرد من خلال رفضه الإقرار بنتيجة انتخابات 2020 وتحريض أنصاره لمهاجمة مبنى «الكابيتول» في يناير2021، لمحاولة قلب النتيجة بالقوة. ومع بلوغه 77 عاما، فإن قدرته على تولي المنصب باتت موضع شك أيضا، حيث أبدى ما يقرب من ستة من كل عشرة أمريكيين تحفظات بشأن عمره.
وفي فبراير 2024، أفاد تقرير صادر عن «روبرت هور»، المستشار الخاص لوزارة العدل، بأن حالة ذاكرة «بايدن» تواجه «عوائق كبيرة»، وهو ما أضاف تنبيهًا رسميًا بشأن قدرته الذهنية، مما أثار تساؤلات بشأن إمكانية توليه منصب رئيس الولايات المتحدة لفترة تمتد أربع سنوات قادمة. وخلال محاولته دحض هذه الادعاءات، وقع في خطأ عندما خلط بين الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي»، و«رئيس المكسيك»، أثناء مناقشة الكارثة الإنسانية في غزة، وهو يعد إشارة إضافية إلى قيود تعامله في لحظات الأزمة.
وبالإشارة إلى عدم ملاءمة كل من «ترامب»، و«بايدن»، للبيت الأبيض بعد عام 2024، تصبح هناك حاجة ماسة إلى النظر في بدائل محتملة في بلد يضم أكثر من 300 مليون نسمة، ويتسم بوجود العديد من أكبر الشركات نجاحًا في العالم، حيث يثير هذا التحدي مجموعة من الأسئلة حول المسار المستقبلي للسياسة الأمريكية.
وفيما يتعلق بالحزب الديمقراطي، فعلى الرغم من تأييد 23% من ناخبي الحزب – وفقًا لآخر استطلاع أجرته صحيفة «نيويورك تايمز» – لا يزال «بايدن»، «السياسي الديمقراطي النشط الأكثر شعبية». ووفقًا لاستبانة مؤسسة «يوجوف»، للربع الرابع من عام2023، بلغت نسبة تأييده 51%، متقدما على «بيت بوتيجيج»، وزير النقل (47%)، و«كاميلا هاريس»، نائبة الرئيس (46%)، و«إليزابيث وارن»، (43%). ومع ذلك، فمن المثير للاهتمام أنه وفقًا لهذا الاستطلاع، فإن الديمقراطيين الثلاثة الأكثر شعبية، هم الرؤساء السابقون «باراك أوباما» (63%)، و«جيمي كارتر» (58%)، و«بيل كلينتون» (51%).
وفي حالة الجمهوريين، أصبح من المُسلم به الآن سيطرة «ترامب»، بشكل كامل تقريبا على تنظيم الحزب وهيكل قيادته؛ وهو ما مكنه من التغلب بسهولة على كل المنافسين من تيارات الحزب المعتدلة واليمينية المتشددة. وأشارت «سوزان جلاسر»، في مجلة «نيويوركر»، إلى أن سباق الترشح الجمهوري «انتهى قبل أن يبدأ» في ضوء هيمنة الرئيس السابق منذ سنوات على الحزب اليميني». ورأى «ستيفن كولينسون»، من شبكة «سي إن إن»، أن النتائج الأولية قد «أكدت هيمنته المطلقة على الحزب».
وبصرف النظر عن الافتقار إلى القدرة على الحركة داخل الأحزاب السياسية الكبرى في أمريكا، هناك سبب مهم آخر لتفسير ما تواجهه الشخصيات الصاعدة من معوقات نحو التقدم إلى القمة، وهو «المبالغ الهائلة من المال»، و«رأس المال السياسي»، التي يجب أن يقدمها المرشحون في الانتخابات الأمريكية، والتي تفوق مقدرة أي مرشح مُستقل، وليس الشخصيات الرئيسية في الأحزاب الكبرى.
وفي عام 2020، بلغ إجمالي حجم الإنفاق على الحملات الأمريكية في كل من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ما يقرب من 14 مليار دولار – أي أكثر من ضعف ما كان عليه في عام 2016 – حيث ساهم أكبر 10 مانحين من الأثرياء الأمريكيين بأكثر من 640 مليون دولار لدعم مرشحيهم المفضلين. ويبقى واضحًا أن هذا الاختلال في التوازن سيزداد سوءًا. ووفقًا لتقييمات وكالة «جروب إم»، سيتم «إنفاق ما يقرب من 16 مليار دولار على الدعاية السياسية قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2024، على الرغم من أن كلا المرشحين ملامح سياساتهما معروفة لدى الناخبين الأمريكيين.
علاوة على ذلك، لا يشكل الاختيار بين «ترامب»، و«بايدن»، خطراً على «الولايات المتحدة»، داخليا فحسب، بل يثير أيضًا مخاوف بالنسبة للمجتمع الدولي أيضا، لاسيما وأنه من المتوقع أن تهيمن الاضطرابات السياسية والخلافات التي طغت على مسيرة الانتخابات الرئاسية في عامي 2016 و2020، مرة أخرى في الانتخابات المقبلة. وفي السياق الدولي، يمكن أن تزيد هذه التوترات من عدم اليقين السياسي والاقتصادي، وتؤثر في العلاقات الدولية والتجارية بين الولايات المتحدة وشركائها، كما يمكن أن تؤدي إلى تقويض جهود التعاون في مجالات، مثل التغير المناخي، ومكافحة الإرهاب، والأمن الدولي بشكل عام.
وبالنسبة إلى الدول الأوروبية، أثيرت احتمالات حول ولاية ترامب الثانية، باعتبارها أمرا مثيرا للقلق. ورأت «ماجدة روجا»، و«جيريمي شابيرو»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، أن «الشبح البرتقالي – كناية عن ترامب – يطارد أوروبا»، مشيرين إلى تهديد حملته الأخيرة لحلف شمال الأطلسي – والتي فشلت في تقديم نسبة 2% من إنفاق الناتج المحلي الإجمالي لديها للحلف – من خلال الإعلان أنه سوف «يدعو» الرئيس الروسي بوتين لغزو أراضيهم، كما فعل في أوكرانيا.
من جانبه، أشار «أندرو دورمان»، من «كينجز كوليدج» إلى أنه خلال رئاسته الأولى، كان «ترامب» يُدار من قبل ما يُسمى بـ«النخبة»، المكونة من مستشاري الأمن القومي، ووزراء الخارجية ذوي الخبرة. ومن المتوقع أن فترة ولايته الثانية لن تحمل نفس التأثير، حيث يبدو أنه يرغب في تنفيذ المزيد من أهداف سياسته منذ اليوم الأول لتنصيبه، بدلاً من الاعتماد على آراء الخبراء المعنيين.
وفي عصر المنافسة العالمية المتزايدة، خاصة مع «الصين»، و«روسيا»؛ أشار «ألفريد ماكوي»، من جامعة «ويسكونسن»، إلى أن انتخاب الرئيس السابق، «سوف يضع نهاية»، لأي حديث متبق عن «قوة القرن الأمريكي»، وأن آليات الدبلوماسية المنمقة الذي ينتهجها الجمهوريون سوف «تدمر قوة البلاد المتدهورة بالفعل».
وبالنسبة إلى الشرق الأوسط، وخاصة فيما يتعلق بالحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة ومحنة الفلسطينيين، لا تقدم نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024، أي أمل في وجود تغييرات إيجابية، حيث يتبنى كلا المرشحين الدعم لإسرائيل على الرغم من انتهاكاتها الصارخة للقانون والأعراف الدولية. ومع استمرار «إدارة بايدن»، في رفض إدانة العدوان الإسرائيلي على المدنيين في قطاع غزة، وعرقلة قرارات وقف إطلاق النار في مجلس الأمن؛ فإن هذا الموقف يتعارض بشكل واضح مع آراء الناخبين الديمقراطيين، الذين انخفض تأييدهم لإسرائيل من 56% إلى 47% في أكتوبر2023، فيما يؤكد 57% منهم على ضرورة قيام «واشنطن»، بممارسة المزيد من الضغوط على إسرائيل لإنهاء حربها على المدنيين.
ويبقى واضحا، أن رفض «إدارة بايدن»، تغيير مواقفها بما يتوافق مع آراء مؤيديها والمجتمع الدولي قد يكلفها الانتخابات الرئاسية، في ضوء حركة الاحتجاج الراهنة داخل الديمقراطيين والمعنية بمقاطعة التصويت لصالح الرئيس الحالي في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، والتي شهدت نسبًا لا يستهان بها (تصل إلى 19% في مينيسوتا)، كمؤشر على التفاعل مع القضية الفلسطينية. ومع ذلك، فإن «بايدن»، وأقرب مستشاريه، لا يزالون يواصلون رفض تغيير موقفهم؛ ما يعكس تحديات متزايدة تواجه القيادة الديمقراطية في تلبية تطلعات جماهيرها وتجاوبها مع التحولات في الرأي العام الدولي.
وبالنسبة إلى الحزب الجمهوري تبدو الصورة أسوأ. وأعلن «ترامب»، عن دعمه العلني الكامل لأهداف إسرائيل الحربية، مؤكدا أنها يجب أن «تنهي مشكلة» غزة، مهاجما «إدارة بايدن»؛ بسبب «تساهلها» ضد خصومها في الشرق الأوسط وأماكن أخرى. وأشار «ألان سميث»، و«فون هيليارد»، من شبكة «إن بي سي نيوز»، مسألة أن ترامب «لم يقدم بعد أفكارًا، أو مقترحات محددة»، للتوصل إلى السلام في المنطقة، بخلاف التعهد بتوسيع ما يُسمى نطاق «الحظر الإسلامي»، ليشمل اللاجئين من غزة، ومنعهم من دخول الولايات المتحدة، وهو ما يوضح أن الإدارة الأمريكية اليمينية القادمة، لن يكون لديها أي اعتبار على الإطلاق لحقوق الإنسان للمدنيين الفلسطينيين.
وفي أعقاب نتائج «الثلاثاء الكبير»، صعّد «بايدن»، و«ترامب»، هجماتهما ضد بعضهما. وصرح الرئيس الحالي أن الشعب الأمريكي يواجه «اختيارًا واضحًا»، بين «المضي قدمًا»، تحت قيادته، أو «السماح لترامب أن يجرنا إلى الوراء، وحالة الفوضى والانقسام والظلامية التي ميزت فترة ولايته». وعلى النقيض من ذلك، أوضح الرئيس السابق أنه «إذا خسرنا هذه الانتخابات، فلن يكون لدينا بلد». ومن المتوقع على نحو متزايد أن تشكل نتيجة الانتخابات الرئاسية لعام 2024، أمرا مصيريا، بما في ذلك بالنسبة إلى الناخبين الأمريكيين، وبقية العالم.
على العموم، فإنه على الرغم من وجود عشرات الآلاف من السياسيين والخبراء ذوي الخبرة في السياسة الاقتصادية والشؤون الخارجية بالولايات المتحدة، إلا أن كلا الحزبين (الجمهوري، والديمقراطي) الرئيسيين في البلاد، خلال دورتين متتاليتين، قدما مرشحين مثيرين للجدل أثبتوا أنهم غير قادرين على توحيد أمتهم محليا أو كسب احترام القادة والشعوب الدولية.
وبالنظر إلى حقيقة أن 42% فقط من الأمريكيين لديهم وجهة نظر إيجابية تجاه «بايدن»، وأقل من 36% منهم لديهم آراء إيجابية تجاه «ترامب» –وفقًا لاستطلاع وكالة أسوشيتد برس في ديسمبر 2023 – فإن هذا يمثل إدانة واضحة لأخطاء النظام السياسي الأمريكي، الذي ارتبط بشكل وثيق بنفوذ المانحين الأثرياء والمؤسسات الحزبية، وهو الأمر الذي يقوض إلى حد كبير الديمقراطية الأمريكية، ودورها كرائدة في إدارة دفة السياسة الدولية، والقانون وحقوق الإنسان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك