أطلقت البحرين دعوة لصياغة رؤية 2050 شملت الدعوة الجمعيات المهنية والمجتمع المدني والقطاع الخاص للمشاركة في هذه الصياغة.
وهذه بادرة ايجابية كانت كذلك نهجا اتبع في صياغة الرؤية 2030 التي جاءت على أثر دراسات ومشاركات مجتمعية وحوارات استمرت من 2004 وتمخضت في 2008 عن الرؤية 2030. تلاها اصدار خطة استراتيجية تنفيذية في 2009 شملت الفترة إلى 2014. ان إطلاق الدعوة لصياغة رؤية جديدة قبل انتهاء الرؤية الحالية يشير إلى وجود غاية أساسية وأهداف مستجدة جعلت مثل هذا القرار ضروريا.
لا شك ان هناك تحولات كبيرة في المجتمع وقضايا ملحة وكذلك تغيرات في المحيط الاقليمي والدولي تحتم إعادة النظر في الغاية والأهداف والتوجهات التنموية الشاملة. من التصريحات التي نشرت يمكن القول إن الدافع لوضع الرؤية 2050 قد يكون استشعار الحاجة إلى توجه جديد لمعالجة القضايا الملحة وإعادة صياغتها ووضع أهداف ومستهدفات لها تكون أكثر تأثيرا وفاعلية. من المهم في هذه المرحلة ان يعمل الشركاء في ابراز الغاية بتفصيل أكبر وتحديد النموذج التنموي الذي يخدم هذه الغاية والأهداف، وطرح التساؤلات والتطلعات من خلال المشاركة التي دعا اليها سمو ولي العهد رئيس الوزراء الأمير سلمان بن حمد آل خليفة. فمثلا من المقالات التي كتبت وما نشر من آراء برزت بعض التطلعات المجتمعية والرسمية. فمثلا هناك قضايا وتحديات شغلت المجتمع بشكل كبير مثل البطالة ومستوى المعيشة والتعليم والصحة والإسكان؛ بالإضافة إلى قضايا القطاع الخاص ومنها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وسوق العمل، وتمكين والضرائب؛ وثالثا قضايا البيئة والموارد البحرية والثروة الطبيعية والسمكية والزراعة.
مثل هذه القضايا والتحديات يمكن تصنيفها في ثلاث مجالات، الأول يتعلق بمستوى المعيشة وتأثيرها على حياة المواطن والثاني يتناول الجانب الاقتصادي وكل ما يتصل بخلق بيئة ينتعش فيها الاقتصاد بقطاعاته المختلفة؛ والثالث يتعامل مع حماية البيئة الطبيعية والثروات البحرية. هذا يعني اننا إزاء رؤية غايتها تحسين مستوى المعيشة وجودة الحياة للجميع وتقدم المجتمع من خلال تنمية اقتصادية اجتماعية بيئية. فما هي القدرات والمهارات والإمكانيات المطلوب توظيفها وتنميتها والاهتمام بها لنتمكن من التعامل مع هذه التحديات خلال الفترة القادمة إلى عام 2050؟ وما القيم والمبادئ التي تدعم الفرد والمجتمع والدولة لتنمية هذه القدرات والمهارات والإمكانيات وتسخيرها لمواجهة التحديات؟ وما التوجه التنموي الذي يلبي متطلباتنا؟
نأمل ان تبدأ المسيرة في مرحلتها الأولى بتحليل الوضع الراهن لمعرفة ماذا تحقق من رؤية 2030 وماذا بقي من التحديات وابراز المعوقات والأسباب التي أسهمت في هذه التحديات والمعوقات. من هذا التحليل نصل إلى فهم عميق للسياق المحلي والعالمي، وننتهي بتحديد التحديات وتعريف وشرح طبيعتها وتحديد العلاقة بين الأسباب التي أدت اليها والنتائج التي وصلت اليها وتأثيرها على الحياة العامة. كما نخرج بعدد من التعريفات التي لا بد منها في بداية المسيرة. أولا تعريف ما ذا نقصد بتقدم المجتمع، وفي أي الاتجاهات يكون هذا التقدم؟ ثانيا توضيح ماذا تعني تحسين مستوى المعيشة وما معايير هذا المستوى؟ ثالثا تعريف وشرح جودة الحياة وما مقوماتها وابعادها؟ رابعا تعريف البيئة الطبيعية والمؤسسية التي نسعى لخلقها وما الجوانب المؤثرة التي تحتاج إلى تحسين؟ خامسا ما المسار الاقتصادي الذي سيوفر لنا القدرات والموارد لمعالجة التحديات الاجتماعية واستغلال الفرص التي يتيحها المحيط المحلي والعربي والدولي؟ بعبارة أخرى ما هي التنمية وماذا يعني النجاح الاقتصادي والاجتماعي بالنسبة لنا؟ لذلك مهم في مرحلة التحليل فهم السياق المحلي من جميع جوانبه لتحديد القيم وتحليل التحديات وأسبابها ووضع المعايير والمؤشرات لمتابعة النجاح.
في المرحلة الثانية يتم وضع السياسات للتعامل مع هذه التحديات والمعوقات وتحقيق ما يراه الشركاء من أهداف ونتائج. قد لا يكون من المناسب معالجة هذه التحديات كل على حدة في بداية الأمر. ففي مرحلة التحليل التي سبقت، اتضحت الأسباب التي ادت إلى وجود التحديات في المقام الأول. كذلك قد تبرز معوقات مشتركة تؤثر في معظم التحديات وبالتالي تكون المقاربة شمولية تطرح منظومة متماسكة ومتكاملة من السياسات والأهداف والإجراءات مدعومة بتوجه فكري واقتصادي/اجتماعي يتعامل مع جذور هذه التحديات ويمهد البيئة المناسبة لنجاح المعالجات، بالإضافة إلى سياسات تتعامل مع التحديات والفرص مباشرة لتحقيق تقدم فيها. مثل هذه المقاربة يمكن ان تشمل وضع السياسات العامة التي تؤثر في بناء القاعدة التمكينية للتنمية مثل سياسات التعليم والبحث العلمي والصحة وتنمية رأس المال البشري والاجتماعي والبنى التحتية لها من تشريعات ومؤسسات واجهزة بما فيها السياسات الكفيلة بالمحافظة على الثروات الطبيعية. من المهم ان توضع في هذه المرحلة المؤشرات التي سوف يتم تقييم الإنجاز والأداء بموجبها، وأهم هذه المؤشرات ما يختص بتأثير النتائج على حياة المواطن بشكل عام، وعلى النشاط الاقتصادي والتقدم المجتمعي. أي ان تنتهي هذه المرحلة بمنظومة من السياسات والمبادرات تعزز كل منها الأخرى، حيث لا يكفي تحقيق نتائج مبهرة في جانب واحد أو أكثر، بل مهم ان يكون الإنجاز متناغما في جميع الجوانب لتحقيق النتائج المرجوة.
المرحلة الثالثة وهي الأهم، حيث يتم تحويل السياسات إلى إجراءات تنفيذية وبرامج ومبادرات ومشاريع تحقق الأهداف وفق خطط متعاقبة خمسية أو كل أربع سنوات يجري تقييم إنجازها وأدائها ومراجعته لضمان تحقيق أهداف التنمية التي نسعى اليها، على مستوى الفرد والمجتمع والدولة. في المحصلة النهائية علينا الاهتداء بمقولة جلالة الملك المعظم حين أصر على ان نسعى نحو تنمية إنسانية مجتمعية اقتصادية هدفها الإنسان. مرحلة التنفيذ ومتابعة النتائج هي المرحلة الأهم.
في هذه المراحل مهم تأكيد ضرورة التناغم والتكامل أولا فيما بين السياسات المقررة، وثانيا فيما بين الإجراءات والمبادرات، وتجنب أي نوع من التناقض بين أي منها. كذلك نتمنى ان يتم التعامل مع النشاط الاقتصادي الناتج من الرؤية من جوانبه الثلاثة (الإنتاج والدخل والتوزيع) معا، وفق القيم والمبادئ التي حددتها المراحل السابقة، ووفق التعاريف التي وضعتها مرحلة التحليل لمعنى التقدم والارتقاء بالمجتمع. كذلك تأكيد وضع أسس المشاركة المجتمعية التي نريد ان نكرسها والتغيرات المؤسسية الداعمة لهذه المشاركة لتكون فاعلة ومكملة للجهد الحكومي والقطاع الخاص. أي لا بد من وجود مبادرات وإجراءات تعنى بقضية التوزيع وليس الإنتاج والدخل فقط. فمن خلال التوزيع تتحقق العدالة الاجتماعية والرفاه والضمان الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي على مستوى الفرد والمجتمع والدولة وفرصة أكبر لتحقيق الاهداف المجتمعية والاقتصادية.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك