لغرض جمع مادة علمية حول موضوع بحثي أمضيت ثلاثة أيام متتالية الأسبوع الماضي في جامعة الدول العربية «بيت العرب»، لا شك أن الجميع يعرف ما هي جامعة الدول العربية بمقرها في المبنى العتيق في ميدان التحرير بالقاهرة، إلا أن زيارة ذلك المبنى والتجول في أروقته يعني دلالات ومعاني أخرى، وقبيل الخوض في تلك الدلالات، وللقارئ فإن جامعة الدول العربية التي تم تأسيسها في 22 مارس عام 1945م قد جاءت تطبيقاً لمضامين الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة التي جاء بعنوان «في التنظيمات الإقليمية» والذي تضمن العديد من المواد التي تحدد مفهوم الأمن الإقليمي ودور المنظمات الإقليمية وتأثير ذلك على حفظ الأمن والسلم الدوليين، ومن هنا تم تأسيس عدة تنظيمات للأمن الإقليمي من بينها جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي «الناتو» ورابطة دول جنوب شرق آسيا «الآسيان» وفي تقديري أن واضعي ميثاق الأمم المتحدة قد حالفهم الصواب عندما أدركوا ضرورة وجود تنظيمات تعبر عن مستوى وسيط للأمن ما بين الأمن الوطني والأمن العالمي لسبب بسيط مؤداه أن الأمن أو الأمن الإقليمي هو وليد بيئته الإقليمية انطلاقاً من واقع الوحدات المكونة له قوة أو ضعفاً.
وبتتبع مسيرة جامعة الدول العربية التي يصفها الباحثون ببيت العرب وهو توصيف ذو دلالة كبيرة، فعندما نقول بيت فلان فإننا نقصد مسمى وهوية وثقافة وتاريخا في ظل عالم تتسارع فيه وتيرة العولمة بضراوتها وتداعياتها على مناحي الحياة كافة على نحو غير مسبوق.
وقد لا يتسع المجال للحديث عن دور الجامعة على الأقل خلال سنوات عملي كباحث في قضايا الأمن الإقليمي منذ حوالي ثلاثة عقود، ولكن أود الإشارة إلى خمسة أمور أولها: أنه على الرغم من أن الموقعين على الميثاق كانوا في البداية سبعة أعضاء، فإن حرص الدول العربية الأخرى كان واضحاً في الانضمام إلى الجامعة ودعم أهدافها ومبادئها حتى تلك الدول التي لم تكن قد حصلت على استقلالها بعد بما يعنيه ذلك من أن فكرة الوحدة والتكتل كانت حاضرة وبقوة لدى كافة أطراف المنظومة العربية، وثانيها: مع أهمية أهداف الجامعة للتنسيق والتكامل في مجالات العمل العربي المشترك كافة فإن الجامعة قد لعبت دوراً محورياً أيضاً تجاه قضيتي استقلال الدول العربية والقضية الفلسطينية. وقد كان ذلك مثار نقاش مطول مع بعض الزملاء العاملين بالجامعة، وثالثها: أن جامعة الدول العربية كغيرها من تنظيمات الأمن الإقليمي ليست سلطة فوقية تعلو الدول، ولكنها حاصل جمع إراداتها بما يعنيه ذلك من أنه من الضرورة بمكان أن يتوخى الباحثون الدقة خلال إعداد بحوث لتقييم دور الجامعة، وخاصة تجاه إدارة الأزمات التي واجهتها المنطقة العربية، وكذلك دور الجامعة في حل بعض النزاعات أخذاً في الاعتبار أن الجامعة تعمل ضمن إطار إقليمي وآخر عالمي به فرص وتحديات في آن واحد، ورابعها: أنه عند مقارنة جامعة الدول العربية بغيرها من تنظيمات الأمن الإقليمي نجد أن مقترحات تطوير الجامعة لا تتوقف بالنظر إلى البيئتين الإقليمية والعالمية سريعة التحول، وخامسها: أنه عند تحليل تجارب الأمن الإقليمي فمن التبسيط الشديد أو بالأحرى الخطأ الانتقال من المقدمات إلى النتائج كما كان عليه واقع حال تجارب التكامل العربي، بمعنى أخرى فإن مقومات التكامل ومنها التاريخ والثقافة والهوية لا تعني تلقائياً تحقيق ذلك التكامل، ولكن هناك متغيرات وسيطة تعكس مصالح مختلفة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.
وبعيداً عن الإسهاب في دور الجامعة، فإن ثمة انطباعات تتوارد إلى الخاطر بمجرد دخول ذلك المبنى العتيق منها مسألة الهوية التي كانت مثار حديث ونقاش مع أحد زملائي ليست كمصطلح يتردد ضمن الأعمال البحثية، ولكن شعورا تجسده صور الأمناء العامين للجامعة التي تزين جدرانها يمكن للزائر أن يلاحظها خلال التجول داخل أروقة الجامعة، فضلاً عن صور للاجتماعات الأولى للجامعة «قبيل الثورة الهائلة في عالم التصوير الآن» ولا شك أن كل صورة بها ألف معنى ومعنى وخلاصتها حرص قادة الجامعة على الاجتماع والتشاور واتخاذ ما يلزم من قرارات تستهدف الحفاظ على الجسد العربي الواحد، ولعل ما لفت انتباهي محتويات مكتبة الجامعة التي تعمل تحت إدارة المعلومات والتوثيق وتعمل كفريق عمل متكامل لتوثيق أخبار الجامعة وأعضائها من خلال أرشيف صحفي نادر، فضلاً عن الوثائق والصور النادرة والطوابع البريدية وجميعها مصادر بحث أصلية يمكن من خلالها تكوين رؤية علمية موضوعية حول تلك المنظمة الإقليمية المهمة، وكان لافتاً حرص العاملين بتلك الإدارة وفي مقدمتهم مديرتها المتميزة على الإلمام بكل ما فيها من مراجع وكتب وتصنيفها وتحديد احتياجات الباحث وتوفيره في وقت قياسي، وهذا هو الأساس الرصين الذي يستند إليه الباحث في إعداده لبحوثه وتقاريره بشكل علمي.
وكان لافتاً أيضاً أن أرشيف الجامعة لا يحتوي فقط على أنشطتها منذ تأسيسها، ولكن تضمن العديد من الكتابات التي تناولت دور الجامعة حتى لو كانت تتضمن وجهات نظر مغايرة بما يعطي الباحثين القدرة على تكوين رؤية متكاملة حول دور الجامعة.
والحديث يطول عن تلك الزيارة إلا أنني أود التأكيد على ثلاثة أمور الأول: أن الباحثين العرب مدعوون لإجراء المزيد من الدراسات حول الجامعة بشكل تحليلي عميق لكونها ستظل صمام الأمان للأمن القومي العربي في ظل ظهور مقترحات وترتيبات غير مسبوقة على أن تستند تلك البحوث إلى مصادر أصلية تمكن الباحث من تحديد الفرص والتحديات، فالمسألة على سبيل المثال تتجاوز البعد العسكري، الأمم المتحدة ذاتها وهي المنظمة الأم ليس لديها جيش وهو ما يعطي الفرصة أحياناً لحلف الناتو بالتدخل عسكرياً في بعض الأزمات، والثاني: انه عند مقارنة الجامعة بغيرها من تنظيمات الأمن الإقليمي فإنه من الأهمية تحديد الظروف المحيطة بكل تنظيم وتوازنات القوى بداخله وما تتيحه البيئة الدولية لتلك التنظيمات من فرص لتؤدي دورها المنوط بها، وخاصة في ظل توجه الأمم المتحدة لإحالة عدة ملفات إلى المنظمات الإقليمية وخاصة نزاعات الموارد الطبيعية، والثالث: أهمية توخي الدقة عند تناول مسيرة جامعة الدول العربية التي كانت وستظل بيت العرب.
وآخراً وليس أخيراً من المهم عند إجراء دراسات حول الجامعة التعريف بمؤسساتها وتطورها عبر حقب زمنية مختلفة والدور المحوري لأمنائها العامين منذ أول أمين للجامعة وهو عبدالرحمن عزام باشا وصولاً إلى جهود الأمين العام الحالي أحمد أبو الغيط.
إن تنظيمات الأمن الإقليمي ومن بينها الجامعة لا تعني تطبيق مضامين الميثاق الأممي في فصله الثامن فحسب ولكنها ستظل أساساً راسخاً للأمن القومي العربي الذي يتكامل مع الأمن الإقليمي والعالمي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية
والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك