زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن عصر ذهبي وهمي
شكوت مرارا من بعض أبناء جيلي الذين لا يحسنون سوى الشكوى، وعندما يتسامرون مع بعضهم بعضا تحسب أنهم يشاركون في مسابقة: «من أكثرنا مرضاً؟» فإذا قال أحدهم إنه يعاني من ارتفاع ضغط الدم والسكري قاطعه آخر: أنا بدون فخر عندي انسداد في ثلاثة صمامات وتضخم في عضلات القلب، والطبيب قال إنه لم يجد لي قطع غيار، فينبري ثالث: أنا في سنة واحدة شلت المرارة والزائدة واللوزتين والطحال، وإن شاء الله في الصيف راح أشيل جزءا من المصران الغليظ!
وإذا لم يشغل العواجيز أنفسهم بالتباهي بما عندهم من أمراض فإنهم يتباكون على أيام زمان «والحياة التي كانت حلوة»! وأفرك فروة رأسي: ما الذي كان جميلا قبل أربعين أو ستين سنة ليتباكى عليه الجماعة؟ ما هي الذكريات الحلوة عن فترة الطفولة التي يتحدث عنها بعض أبناء جيلي؟ لا أذكر انه مر علينا أسبوع واحد ونحن نلعب -كأطفال- من دون ان يتعرض أحدنا للدغة عقرب أو ثعبان أو رفسة حمار.
أصبت ذات مرة بضيق في التنفس فذهب بي والدي إلى رجل حبشي وكان تشخيص حالتي كما يأتي: هناك شحم متراكم في الصدر والبطن ولا بد من إذابته بالكي بالنار، وهكذا وضع مسمارا طويلا على جمر متقد، ثم كوى بطني وصدري في نحو عشرة مواضع، وكان الشيء الإيجابي الوحيد من تلك التجربة العلاجية هو أنني صرت «محتشماً» ولا أمارس السباحة في حضور الآخرين، إلا بنصف ملابسي، حتى لا يروا الخطوط العجيبة التي خلفها الكي في بطني، ويحسبوا أنني حمار وحشي مستنسخ.
ويا سلام على الطعام أيام زمان؛ العائلات الارستقراطية كانت تذوق اللحم مرتين في الأسبوع، ولعل كثيرين لا يعرفون لماذا لم تتعرض الدول العربية لغزو الجراد خلال العقود الأخيرة، والسر في ذلك هو أن الجراد تعلم الدرس، فهو يغزو البلاد ليأكل من محاصيلها الزراعية، ولكنه غزا الدول العربية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين فوجد نفسه مأكولا، فقد كان الناس يرحبون بقدومه ويصطادونه بعشرات ومئات الآلاف ويأكلونه مشويا ومحمرا، وبعد ذلك قررت القيادة القومية لحركة الجراد الأحرار عدم التحليق في الأجواء العربية.
ويقال إنه خلال هجرة الجراد من الغرب إلى الشرق ذات عام حيث تعرضت المحاصيل في غرب إفريقيا للدمار الشامل حلقت مئات الملايين منها في الأجواء العربية، وكلما رأت خضرة تهاوت نحوها، ولكن في كل مرة كان قائد السرب يقول لهم: فوق، فوق.. أي واصلوا التحليق إلى أعلى.. فحدثت حركة احتجاجات وتمرد، وعندما علم القائد بذلك جمعهم وألقى فيهم خطبة قصيرة: لقد أوصانا أجدادنا بتفادي العالم العربي، ويا أولاد الكلب لو نزلتم في هذه المنطقة سيأكلونكم عن بكرة أبيكم!
كيف تكون الحياة حلوة بدون ثلاجة؟ حتى بعد أن انتقلنا إلى المدينة كان أبي يرسلني في قائظة النهار إلى محل لبيع الثلج لأشتري «رُبع لوح»، وكان ذلك دليلا على ان عائلتنا صارت برجوازية، وحتى بعد دخولي الحياة العملية كنت أبقى في رمضان في المكتب حتى قبل المغيب بدقائق! لماذا؟ لأن المكتب به مروحة. ثم جاءت مكيفات الهواء، ثم حلت السيارات محل الحمير، ولعلمكم فركوب الحمير يسبب البواسير، وأنا أتكلم عن تجربة فزملائي في المرحلة الابتدائية مازالوا يذكرون كيف كانوا يحسدونني لأنني كنت أملك حمارا أروح وأجي به. ودفعت ثمن ذلك لاحقاً!!
واليوم تكون في بلد أجنبي وبعد سويعات تجد نفسك في أحضان اهلك.. وحتى لو بقيت بعيدا عن أهلك انتهى عصر القلق عندما كانت الرسالة لبريدية تسير 15 يوماً لقطع البحر الأحمر ما بين السودان والسعودية (مثلا) والآن أستطيع أن أتواصل مع أهلي عدة مرات يومياً، ولن أنسى كيف قاومت أمي تزويد بيتها بالتلفون، وكيف كانت كلما كلمتها قليلا ثم طلبت أن أحدث إحدى أخواتي تصيح بصوت عال: يا بنت تعالي كلمي أخوكي. ثم «تقفل الخط».
رجاء لا تحدثوني عن عصر ذهبي وهمي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك