ليست المشكلة غياب الدولة الفلسطينية، بل تكمن المشكلة في الصهيونية نفسها.
ما فائدة الدولة الفلسطينية إذا استمرت الصهيونية، كأيديولوجية عنصرية وحصرية، في تعريف إسرائيل وفرض هذا التعريف على الفلسطينيين؟
وتدعو هذه الأيديولوجية إلى النقاء العنصري لليهود في فلسطين، بالطبع، على حساب السكان الأصليين للأرض. ولتحقيق ذلك، كان لا بد من إجبار ملايين الفلسطينيين على النزوح إلى المنفى، وكان لا بد من قتل أو جرح أو سجن مئات الآلاف.
لن يكون من الممكن إقامة دولتين، أو حتى دولة واحدة، إذا لم يتم هزيمة الصهيونية بالكامل – وليس تجديدها، أو «إصلاحها»، بل القضاء عليها.
وبينما يُقتل الفلسطينيون بأعداد كبيرة غير مسبوقة في غزة، يستيقظ الساسة الغربيون على ضرورة قيام دولة فلسطينية.
ويقتلون الفلسطينيين بأعداد كبيرة ولم يكونوا في غزة، ويستعينون بالساسة في الغرب على أن تكون الدولة الفلسطينية.
إن هذه ليست صحوة أخلاقية، بل إنها وسيلة إلهاء للظهور – على الأقل أمام شعبهم – في دور استباقي، في حين تعمل إسرائيل على تدمير الشعب الفلسطيني بشكل منهجي.
وقال كريس جونيس، المسؤول السابق في الأونروا، عن الحرب الإسرائيلية على غزة إن هذه «أول إبادة جماعية في تاريخ الإنسانية يتم بثها مباشرة على شاشة التلفزيون».
إن الإبادة الجماعية تتفاقم الآن بعد أن بدأ الفلسطينيون يموتون من الجوع، في حين يموت عدد أكبر من الفلسطينيين بسبب الأمراض والمياه الملوثة، ناهيك عن أولئك الذين تقصفهم إسرائيل أو تطلق النار عليهم.
بالنسبة إلى أمثال ديفيد كاميرون، وزير الخارجية البريطاني، فإن الحديث عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية باعتبارها «أمراً حيوياً للغاية» لتحقيق «سلام طويل الأمد» أمر محير، على أقل تقدير. إن أولئك الذين يكافحون من أجل البقاء يومياً لا يهتمون كثيراً بالوعود الغربية الفارغة.
إن الإبادة الجماعية الجارية في غزة تخبرنا أن القضية ليست سياسية فحسب، بل هي قضية أيديولوجية. وبينما يتحدث الزعماء الغربيون عن «سلام طويل الأمد»، تعمل إسرائيل على ترسيخ نظام العنف والفصل العنصري.
«لا يمكن أن يكون هناك وضع يقترب منا فيه الأطفال والنساء من الجدار. وقال وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتامار بن جفير في 12 فبراير 2024: «أي شخص (...) يجب أن يتلقى رصاصة».
أما في غزة، فإن العنف أكثر إثارة للاشمئزاز. وأفاد المرصد الأورومتوسطي، وهو جماعة حقوقية، في 12 فبراير أنه «سُمح لمجموعات من عشرة إلى عشرين مدنياً إسرائيلياً في وقت واحد بمشاهدة السجناء والمعتقلين الفلسطينيين وهم يرتدون ملابسهم الداخلية وتصويرهم وهم يضحكون» أثناء تعرضهم للتعذيب والإساءة على أيدي الجنود الإسرائيليين.
ولا يمكن أن يكون هناك أي مبرر سياسي عقلاني لأي من هذا.
كل هذا – لغة الإبادة الجماعية، والإبادة الجماعية ذاتها والتهديدات بارتكاب إبادة جماعية أعظم – لا تمتد جذوره إلى نظرية سياسية عقلانية، بل إلى الصهيونية.
المشكلة تزداد سوءًا لأننا نرفض معالجتها بشكل مباشر. في الواقع، كثيرون يفعلون العكس تمامًا. على سبيل المثال، أقرت الحكومات الغربية –أو تعمل على إقرار– قوانين تساوي بين انتقاد الصهيونية ومعاداة السامية. وحتى فيسبوك يريد حظر استخدام مصطلح «الصهيوني» إذا كان ينتقد إسرائيل.
فحين هدد وزير التراث الإسرائيلي أميخاي إلياهو في الخامس من نوفمبر بإسقاط قنبلة نووية على غزة، أدانه كثيرون لمجرد لغته غير اللائقة، وليس الفعل في حد ذاته. كما انتقد بعض المسؤولين الإسرائيليين إلياهو أيضًا، فقط لأنه أضر بسمعة إسرائيل الدولية.
لكن الوزير الإسرائيلي لم يكن يتحدث بدافع الغضب فحسب. لقد كان يعني ذلك، لأن سلوك إسرائيل في غزة منذ ذلك الحين أثبت أن مثل هذا الاستعداد لقتل الفلسطينيين بشكل جماعي موجود بالفعل.
الصهاينة مستعدون لفعل أي شيء من أجل البقاء، وبقاؤهم يعتمد كليًا على محو العدو المتصور؛ ليس «المحو» بالمعنى الفكري أو السياسي أو حتى الثقافي، بل التدمير المادي للفلسطينيين أيضًا.
وكان التطهير العرقي في فلسطين، المعروف بالنكبة، عام 1948، محاولة جادة لتحقيق هذا الهدف. ولكن بما أن «العدو»، وهو الأمة الفلسطينية، قد بقي على قيد الحياة ويستمر في المقاومة والمطالبة بحقوقه الجماعية، فقد عاد التطهير العرقي للشعب الفلسطيني الآن إلى الأجندة السياسية الإسرائيلية السائدة.
إن حرب غزة المستمرة هذه هي أخطر محاولة حتى الآن لتدمير الشعب الفلسطيني. ولهذا السبب يريد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته مواصلة الحرب.
فهم من ناحية يريدون ضمان استمرار المذبحة، وبالتالي إبادة الفلسطينيين، ومن ناحية أخرى، فهم يدركون تمامًا أن هذه فرصة تاريخية لإنهاء مهمة لم يكملها القادة الصهاينة السابقون، منذ 75 عامًا مضت.
والحقيقة أن إسرائيل ترى أن الحرب على غزة تتجاوز الحدود الجغرافية لقطاع غزة الصغير. إنها حرب على الفلسطينيين في كل مكان. إذا نجحت إسرائيل في إخضاع غزة، فإنها ستحول أنظارها فوراً إلى الضفة الغربية، ثم إلى ملايين الفلسطينيين داخل إسرائيل.
ومن المهم أن نتذكر أنه قبل الحرب الحالية، كان التحريض الإسرائيلي ضد الفلسطينيين يتركز في الغالب على الضفة الغربية – بهدف معلن يتمثل في ضم أكثر من ثلث تلك المنطقة المحتلة.
كما كانت هناك حملة إسرائيلية رسمية كبيرة لتقويض الحقوق والتحريض على الكراهية ضد العرب الفلسطينيين داخل إسرائيل. هذه الحملة متجذرة في التاريخ ولكنها أصبحت أكثر وضوحًا بعد انتفاضة مايو 2021.
عندها أدركت إسرائيل أن «انقسام» الفلسطينيين كان سياسيًا إلى حد كبير، وأن الفلسطينيين، كأمة، يظلون مترابطين بقوة.
ولهذا السبب، مارس بن جفير ضغوطا، حتى قبل أن يتولى منصبه الوزاري في ديسمبر 2022، من أجل تشكيل حرس وطني مكلف بـ «استعادة الحكم حيثما دعت الحاجة».
فإذا سقطت غزة فإن كل الفلسطينيين في بقية فلسطين سوف يصبحون هدفاً جديداً للعنف الإسرائيلي، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية إذا لزم الأمر.
إن اختزال كل هذه القضايا في البحث عن حلول سياسية خلاقة لا تؤدي إلا إلى بيع أمل كاذب للشعب الفلسطيني ليس مجرد جهل أو مراوغة، بل إنه أيضاً تحويل عن القضية الحقيقية: الأيديولوجية الصهيونية الإسرائيلية.
إن الصهيونية، مثل كل الأيديولوجيات الاستعمارية العنصرية، تعمل وفق نهج محصلته صفر في علاقتها مع السكان الأصليين للأراضي المستعمرة: الهيمنة من خلال التطهير العرقي والإبادة الجماعية.
ولكي يتحقق «سلام طويل الأمد»، يجب أن تنتهي الصهيونية.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك