هي تماضر بنت عمرو السلمية، وعُرفت بالخنساء، صحابية وشاعرة، أدركت الجاهلية والإسلام وأسلمت، واشتهرت برثائها لأخويها صخر ومعاوية اللذين قتلا في الجاهلية، ولقد أجمعت المصادر التاريخية التي صنفها أهل العلم بالشعر أنه لم يكن امرأة قط قبلها ولا بعدها أشعر منها.
وهي من قبيلة سُليم، وليس لها من إخوة غير معاوية شقيقها وصخر أخيها لأبيها، وصخر هذا هو الذي ملأت بذكره شعرها عويلاً، وأكثرت فيه الرثاء، ولم يُعرف لها أخوات، لا من أمها ولا من أبيها، فكانت الابنة الوحيدة لأبويها.
شبّت (تُماضر) في بيئة جاهلية ذات شأن، واسمها (تُماضر) يعني البياض، كما تشير المصادر التي أرّخت لها. أما لماذا سميت بالخنساء؟ فالمصادر تشير إلى أن «تماضر من ذوات الجمال؛ يدل على ذلك تلقبها بالخنساء. قالت صاحبة (الدرر المنثور في طبقات رباتِ الخدور): «وتكنى أم عمرو؛ وإنما الخنساء لقب غلب عليها، وهي الظبية»؛ وتشبيهها بالظبية يوحي بما لها من جمال وفتنة. وقال صاحب (تاج العروس): «وأصل الخَنَس في الظباء، وأنف البقر أخنس لا يكون إلا هكذا».
وسط هذه البيئة، وهذه الأسرة العريقة بمفهوم العصر الجاهلي، عاشت الخنساء. وربما يُشاع أن بيئات العصر الجاهلي، الذي عاشت فيها الخنساء، وسط هذه البيئة الصحراوية، كان يخلو من استقرار يشي بشيء من التحضر كما يظن بعضهم؛ حيث البدو الرُّحل يهيمون على وجوههم، بحثًا عن الكلأ والمرعى؛ إن هذا زعم خاطئ.
ترى د. بنت الشاطئ، أن الخنساء «لم تكن إذن، تعيش هائمة على وجهها، ضاربةً مع قومها في مجاهل البادية؛ ولا جهلت الموطن الغالي، والدار، والمنزل، والحمى الذي لا يجوز أن يستباح. وإنما كانت تقيم مع العشيرة في ديارها أرض بني سُليم. وحياة البدو لم تكن – على ما فهم كثير منا – حياة رعي فحسب؛ وإنما كان منهم التجار، وأصحاب الإبل، وكان منهم حرّاس القوافل وحماتها الذين يؤجرون لحراستها».
يقول ابن خلدون: «إن شاعرتنا الخنساء نشأت في بيت كان على أعلى ما يكون من الرُقي؛ فهي بنت البيئة الطبيعية، من حيث الفطرة والتربية والحرية والأخلاق. فمن يتأمل حياتها الأولى؛ لا يجد غير النفس الطبيعية الهادئة والسلوك القويم».
الصفات القيادية في شخصية الخنساء
نستطيع أن نلمح صورة الخنساء وشخصيتها من خلال البيئة والوسط الذي عاشته، ليس ذلك فحسب وإنما تقلبت ونمت وتعايشت مع كثير من الظروف والأحداث التي جرت في حياتها، سواء زواجها، أو موت أشقائها، بالإضافة إلى إسلامها واستشهاد أبنائها، وغيرها من الحوادث التي تعيد ترتيب حياة الإنسان. ونحن نعلم اليوم أن كل تلك الأمور أثرت فيها بطريقة أو بأخرى وخاصة في تنمية شخصيتها وحياتها.
وما سنحاول أن نسرده هنا هي بعض الصفات والسمات التي تميزت بها، مثل:
حرية الرأي والقدرة على اتخاذ القرار: تروي كتب السير أن سيد بني جشم، وفارسها المظفر (دريد بن الصمة) انطلق ذات يوم على فرسه في رياضة قصيرة، وما كان يخاف شيئًا، فقد شارك في نحو مئة معركة، ما أخفق في واحدة منها، وأصبح له من سمعته ما يكفل له الأمن والإكرام. وبينما دريد في رحلته تلك القصيرة، لفت نظره مشهد فتاة تهنأ بعيرًا لها. ويتساءل فيعرف أنها (تماضر بنت عمرو)، شقيقة صديقه الحميم معاوية، فوقف سعيدًا إذ وصل إلى تلك النتيجة فأنشد شعرًا يمدحها.
وفي الصباح أخذ طريقه إلى منزل صديقه معاوية بن عمرو، تلقاه عمرو بالترحاب، وجلس دريد في مجلسه وقال: «جئت أخطب ابنتك تماضر الخنساء» قال له عمرو: «مرحبًا بك يا أبا قرة، إنك لكريم لا يطعن في حسبه، والسيد لا يرد عن حاجته والفحل لا يقرع أنفه، ولكن لهذه المرأة في نفسها ما ليس لغيرها، وأنا ذاكر لها وهي فاعلة». ثم دخل على ابنته، وقال لها: «يا خنساء، أتاك فارس هوازن وسيد بني جشم، دريد بن الصمة يخطبك وهو من تعلمين...»، قالت وكان دريد يسمع حديثهما: «يا أبت: أتراني تاركة بني عمي مثل عود الرماح، وناكحة شيخ بني جشم؟» فخرج إليه أبوها فقال: «يا أبا قرة، قد امتنعت، ولعلها تجيب فيما بعد». فقال دريد: «قد سمعت قولكما»، قالها وهو منصرف، دون أن يزيد عليها. وتشير الروايات أن أخاها معاوية أراد أن يجاور صديقه دريد فحاول معها، ولكنها أصرت على موقفها من الرفض.
لنراجع الموقف، نحن نتحدث عن بيئة عربية جاهلية قبل الإسلام، إذ لم يكن للمرأة قيمة ليس لإبداء الرأي فحسب، وإنما في جميع الأحوال، ولكننا نشاهد هنا أن الأمر مختلف، إذ يلاحظ أن أباها وجد فيها رجاحة العقل، واتزان الفكر، فأبى إلا أن يكون زواجها بعد موافقتها، فرفضت الزواج من غير تردد، فتزوجت بعد ذلك من تريد.
بلاغتها وحسن منطوقها: يقول ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء: «أما ما أدخلت الخنساء من صفات جديدة في المرثية، فمن الصعب أن نحدده، لأنه لم يصل إلينا شيء تام من هذا النوع قبل قصائدها، إلا ما ورد عن المهلهل، وهو في مجمله يقرب من طريقة الخنساء، ولكن ما لا شك فيه هو أن من تبعها من شعراء الرثاء، وشواعره اغترفوا جميعهم من بحرها الفياض بفيض العاطفة البشرية».
قوة الشخصية: وبعدما أسلمت كان لها موقف مع أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما إذ تقول الروايات أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها استقبلتها فقالت لها في رفق، وقد أحزنها أن تراها حليقة الرأس، مرتدية صدارًا من شعر تدبّ من الكبر على عصا: أخناسُ!. أجابت الشيخة الحزينة، وقد هزّها الدعاء: لبيَّك يا أماه. قالت «تستثير فيها إرادة التصبّر والتجمّل بالعزاء»: أتلبسين الصّدار وقد نهى الإسلام عنه؟ قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم فما لبست هذا. فخفضت رأسها، وهي تجيب في أسى وضعف: لم أعلم بنهيه. فكفَّت السيدة عن ملامتها، وأقبلت عليها تسألها مترفقة: ما الذي بلغ بك ما أرى؟، أجابت وهي تشهق بدمعها: موت أخي صخر. ولمست الحزينة صدارها، ثم رفعت رأسها إلى أمّ المؤمنين قائلة: واللهِ لا أخلف ظنّه، ولا أكذب قوله ما حييت. فإن يكن الإسلام قد نهى عن مثل هذا؛ فرحمة الله واسعة.
وتستمر كتب التاريخ تروي حكايتها حول عودتها لشيء غير قليل من الصواب، مجافاة وكفًا عن الحزن، استنبطها من قراءاته إسماعيل القاضي، يذكر ذلك قائلاً: أمّا كيف قد اصطدمت بالحقيقة، فعرفتها، ثم رجعت إلى الصواب؛ فكان ذلك نتيجة حادثة بسيطة، والتي كانت سببًا لاتضاح الأمر وانكشاف الضلال. وتتلخص في أنها خرجت يومًا فإذا امرأة تنوح، فظنت أن بها مثل ما بها، فمضت تساعدها على البكاء حتى انتهى. فسألتها على أي شيء تنوحين؟ فقالت: على جرو كلب لي هلك. فكان هذا الجواب مفتاح الفرج وسبب ذلك الانتباه؛ إذ رجعت به الخنساء إلى نفسها، وجمعت تفكيرها ثم قالت: «لا بكيتُ بعد بكائي على جروها أبدًا». وهكذا فإنها تركت البكاء، حين وجدت أن لا قيمة له في حقيقة الواقع.
فقد ثبتت إلى رشدها أخيرًا، كيف لا، وقد وجدت أنها إنْ بكت صخرها لحبها إياه وتقديرها له؛ فإن هذه المرأة قد بكت جرو كلب أحبته، وقد هلك، وإذن، فأي قيمة للبكاء، وما لها تبكي وتؤذي نفسها، إن كان هذا هو قدر البكاء؟
شجاعتها وتضحيتها: حينما لاحت رايات القادسية، وبدأ جيوش المسلمين تتحرك نحو فارس لتدمير المجوسية والكفر، جمعت أولادها الأربع وقالت لهم: «يا بني، إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم. وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين. واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله عزَّ وجل: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين. وإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وجللت نارًا على أوراقه، فتيمموا وطيسه، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة.
فلما وصل إلى مسامعها نبأ استشهادهم جميعًا قالت: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته».
صورة من صور النساء القائدات اللاتي كانت ذات أثر مهم في تاريخ القيادات النسائية الإسلامية، ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى الاستشهاد بمواقفها وحياتها، هذه المرأة ملأت صفحات الشعر بكاءً ورثاءً على أخويها بعد ما ماتا، ولكنها اكتفت ببضع كلمات عندما استشهد أولادها، والسبب أن نظرتها إلى الموت وفلسفة الموت اختلفت في عقلها بعدما أسلمت، فالإسلام ينظر إلى الموت بطريقة تختلف تمامًا عن بقية الشرائع والنظريات والأفكار المادية، إنها شريعة ودين وفكر جديد.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك