المهمة الرئيسة، والخالدة للقرآن الكريم هي إثبات التوحيد الخالص لله رب العالمين، والإيمان بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) في بلاغه عن ربه سبحانه وتعالى.
ثم يأتي بعد ذلك إبلاغ الرسالة إلى الناس، ودعوتهم إلى الإسلام، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر بالله، ثم بعد ذلك تتداعى مهمات أخرى لتثبت للقرآن الكريم منزلة ورفعة لم يحظ بها كتاب سماوي آخر غير القرآن الكريم، وفوق أنه معجزة تدل على صدق الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) في بلاغه عن ربه سبحانه، فهو أي -القرآن الكريم - فوق ذلك ينبئ بالغيب، ويشير إشارات موحية إلى عديد من سبل المعرفة، وإلى صراطها المستقيم الذي يوصل لا محالة إلى خيري الدنيا والآخرة.
فالقرآن الكريم إذًا، وبهذا المعنى الواضح الجلي، والباذخ نستقي منه مصادر المعرفة التاريخية من مثل قوله تعالى: (إنا أرسلنا نوحًا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم) سورة نوح / 1. ثم يأتي حديثه عن أبي الأنبياء إبراهيم (على نبينا وعليه الصلاة والسلام)، وما جرى له مع أبيه، وقومه والحاكم الطاغية الذي أعرض عن دعوة الحق.
ومن مصادر المعرفة العلمية في القرآن الكريم من مثل قوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (17) وإلى السماء كيف رفعت (18) وإلى الجبال كيف نصبت (19) وإلى الأرض كيف سطحت (20)) سورة الغاشية.
هذه دعوة إلى العلم مبرورة تفتح أمامنا أبواب المعرفة ونوافذها، وذلك من خلال تدبر آيات القرآن العظيم، وسوره الجليلة في القرآن والأكوان.
ومن مصادر المعرفة ما يرشدنا إليه من التشريعات الخاصة فيما يخص قضايا المرأة، وما يدلنا عليه من الحقوق والواجبات للمجتمع المسلم في سورة النساء، وسورة الطلاق، وغيرها من الآيات الجليلات، بل إن تشريعات الإسلام فيما يخص المرأة والرجل في علاقاتهم الخاصة والعامة تصلح حتى لغير المسلمين بوصفهم من الناس، والفرق بين المسلمين وغير المسلمين أن المسلمين بالإضافة إلى ما يتحقق لهم من المودة، والرحمة في الدنيا إذا التزموا بأوامر الدين، فإنهم فوق ذلك يثابون على عملهم هذا أما غير المسلمين ، فإنهم تصلح حياتهم، وتستقيم أمورهم في الدنيا ولا حظ لهم في الآخرة.
وأما فيما يخص الحكم والسياسة، فقد تكفلت آيتان من سورة الممتحنة في تنظيم العلاقات الدولية بين المسلمين وغير المسلًمين في السلم والحرب، يقول تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الدين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)) سورة الممتحنة. أيضًا من التجارب التي أشار إليها القرآن الكريم وأمرنا أن نتدبرها لنستخلص منها العظة والعبرة، ونستلهم منها نظامًا للحكم يحقق للأمة المصالح العامة، وفِي هذا إشارة واضحة إلى أن الدولة في الإسلام، دولة مدنية بمرجعية إسلامية، فيما يتعلق بالحلال والحرام، وشعار المسلمين فيها: رعاة ورعية «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، وهذه التجربة التي أشار إليها القرآن هي قصة الملكة بلقيس، ملكة سبأ مع نبي الله سليمان (عليه الصلاة والاسلام) حين قَدَّمَ الهدهد تقريره إلى النبي سليمان عن أحوال الملكة وشعبها، فأرسله بكتاب إليها، ولما ألقي إليها الكتاب، جمعت أهل الرأي والمشورة في شعبها ، فقالت لهم: (قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم (29) إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (30) ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين (31)) (سورة النمل)، فكان ردها على كتاب نبي الله سليمان: (قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون (32) قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين (33) قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون (34) وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون (35)) سورة النمل.
ولقد أثبتت الملكة بلقيس، ملكة سبأ بحسن تصرفها، وثاقب نظرها، وإصرارها على عرض الأمر على مجلس الشورى أنها ملكة دستورية لا تقطع في أمر حتى تستمع إلى رأي أصحاب الرأي والمشورة، وفِي هذا نوع من المشاركة السياسية في إدارة شؤون الرعية، وتحمل جزء من المسؤولية في النصر أو الهزيمة.
ومن المعارف التي احتدم حولها الجدل ما يسمى بنظرية دارون ونشأة الحياة، تقول النظرية التي توصل إليها وأطلقها العالم تشارلز دارون عام 1859 م إن جميع الكائنات الحية منذ بدء الخليقة حتى الآن تتشارك أسلافًا مشتركة، وأن القرد هو السلف للبشر مع غياب الحلقة التي تثبت هذا التطور.
ومعارف القرآن وعقيدته في نشأة الكون والأحياء جاء الرد عليها في قوله تعالى: (ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا) سورة الكهف، أي إن الله تعالى لم يتخذ شركاء ومعاونين، ومشاركين له سبحانه في الخلق حتى يفشون أسرار الخلق من ورائه - تعالى الله عن ذلك علوًا كثيرا - ومن المعارف التي أشار إليها القرآن الكريم ، وذكرها الله تعالى في معرض المن على عباده المؤمنين بالمعرفة الروحية في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذًا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) سورة الأنفال / 24.
والآية المباركة تخاطب أحياء كما يقول العالم الكبير الشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله تعالى)، فكيف يقول لهم: استجيبوا لما يحييكم لا شك أنه يشير إلى حياة القيم والمبادئ التي ترتقي بالمؤمن في سلم الدرجات عند الله تعالى.
هذه بعض شذرات عن مصادر المعرفة في القرآن العظيم، وشيء من إشاراته الموحية تقدم زادًا مباركًا للمؤمنين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك