أعلنتْ الجهة المنظمة إقامة الألعاب الأولمبية والبارالمبية في 15 فبراير 2024 التي ستعقد في باريس في الفترة من 26 يوليو إلى 11 أغسطس 2024 بأن جميع الميداليات والهدايا التذكارية إضافة إلى الشعلة الأولمبية ستكون مصنوعة من مخلفات المعادن، وبالتحديد من أعمال الصيانة والترميم لبرج إيفل، حيث تمت معالجتها، ثم تدويرها وإعادة استخدامها.
كما جاء في الإعلان بأنها ستشتمل على تصميم وإنتاج 5000 جائزة من ميداليات وغيرها من هذه المخلفات الحديدية التي ستُقطع على شكل سداسي الأضلاع وتحتوي على صورة لبرج إيفل، حيث تقوم بتصميمها وتصنيعها شركة «برنارد أرنولت» (Bernard Arnault)، إضافة إلى بعض كبريات الشركات الفرنسية المعروفة في الموضة على المستوى الدولي مثل لويس فيتون، وديور، وبرليتي، وتيفني، وبلجاري، وتشامت.
كذلك ستقوم الجهة المنظمة أيضاً بصناعة مقاعد الملاعب من المخلفات البلاستيكية التي تَنْتج من المدن الفرنسية. ومثل هذه السياسات والأعمال المتمثلة في منع، أو خفض، أو تدوير وإعادة استخدام المخلفات في مرافق الألعاب الأولمبية، إضافة إلى استخدام مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة في توليد الكهرباء وفي وسائل المواصلات، وتوسعة الرقعة الخضراء لامتصاص ملوثات الهواء الجوي وغيرها من البرامج والإجراءات البيئية تأتي ليست حباً في البيئة وحماية مواردها وثرواتها الطبيعية فقط، وإنما تنفيذاً لمتطلبات واستحقاقات استضافة وإقامة هذه المنافسات الرياضية الدولية، بحسب اشتراطات اللجنة الأولمبية الدولية.
فهذه الممارسات البيئية في الأحداث الرياضية الأولمبية تؤكد أن البيئة لم تَعُد اليوم عنصراً هامشياً من عناصر إتمام الملف الذي تنوي أي دولة تقديمه عند الرغبة في استضافة أي حدث رياضي على جميع المستويات الدولية والإقليمية، ولا تعتبر البيئة الآن قضية اختيارية لمن يرغب أن يُدخلها ضمن ملف التقديم، وإنما تحولت إلى عنصر محوري وجوهري لكل دولة تريد أن تنجح في إقناع المسؤولين بأهليتها وقدرتها وكفاءتها في استضافة الأحداث الرياضية، سواء كانت على مستوى كأس العالم في كرة القدم، أو الألعاب الأولمبية الصيفية والشتوية، فالعامل البيئي أصبح ذا أهمية كبرى، ومن العوامل الرئيسة والقوية لمنح استضافة الألعاب الرياضية العالمية ومن أسباب نجاحها.
فالجانب البيئي يدخل ضمن تحقيق «الاستدامة»، أو ما يُعرف بالتنمية المستدامة الذي تعمل كل دول العالم على إنجازها في وقت محدد، بحسب الأهداف العامة الـ17 التي وضعتها الأمم المتحدة، ولذلك تم ضم وإدخال البعد البيئي في كل القطاعات التنموية والبرامج والأحداث الدولية، منها المنافسات والمناسبات الرياضية. فالبيئة تشمل حماية الموارد والثروات الطبيعية الحية وغير الحية نوعاً وكماً، مثل الثروة المائية، ومصادر الطاقة، والثروة الحيوية النباتية والحيوانية، والبيئة تعني منع أو خفض إنتاج المخلفات بجميع أنواعها الصلبة، والسائلة، والغازية، ولذلك فالأحداث الرياضية يجب أن تتصدي لكل هذه القضايا، وتعمل على معالجتها أثناء الحدث.
وقد انتبهت اللجنة الأولمبية الدولية إلى أهمية إدخال الجانب البيئي في جميع أنشطة وبرامج اللجنة والاتحادات الدولية والإقليمية والقومية، فعملت على فَرْض العنصر والعامل البيئي ووضعه على رأس أولوياتها، لِما للأنشطة الرياضية الكبرى من تأثير سلبي على الموارد البيئية، ولذلك فقد دخلت البيئة في ملفات الدول التي ترغب في استضافة أي حدث رياضي عالمي، بحيث تقوم هذه الدول بإقناع اللجنة المعنية باختيار الدول المستضيفة لأي حدث على الجهود التي ستبذلها في حماية البيئة، فتُقدم كافة البرامج والأنشطة والإجراءات التي تنوي اتخاذها وإقامتها أثناء المنافسات.
فقد بدأت اللجنة الأولمبية الدولية بمبادراتها البيئية بدءاً من عام 1992 عندما وقعت في برشلونة على ميثاق الأرض، أو إعلان ريو الذي تمخض عن قمة الأرض التاريخية التي عقدت في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، ثم في عام 1995 وقَّعت اتفاقيةْ تعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة، وهي الجهة الأممية المعنية بالبيئة. وفي يوليو 1996 وافقت الحركة الأولمبية على تعديل الدستور الأولمبي ليتضمن بُعداً وركناً ثالثاً جديداً هو الركن البيئي، إضافة إلى الركنين السابقين، وهما الرياضة والثقافة. وفي ديسمبر 1995 شكَّلتْ اللجنة الأولمبية الدولية لجنة دولية متخصصة للاهتمام بالركن البيئي تحت اسم «لجنة الرياضة والبيئة»، حيثُ قمتُ بتشكيل هذه اللجنة أيضاً في البحرين كإحدى اللجان العاملة في اللجنة الأولمبية البحرينية عام 1998 وكنتُ رئيساً لها، كما قمتُ بتأليف كتاب متخصص يشمل جميع الجوانب المتعلقة بتأثير الرياضة على البيئة من جهة، وتأثير نوعية وجودة البيئة على الرياضة وعلى أداء الرياضي أثناء المنافسات، حيث صدر الكتاب في يناير 1999 تحت عنوان: «الرياضة والبيئة».
كذلك من الجهود التي قامت بها اللجنة الأولمبية الدولية هي إصدار دليل خاص يساعد الدول عند تقديمها الملف الخاص باستضافة البرامج الأولمبية، ويشتمل على خمسة محاور في البيئة ومواردها، كما يلي:
أولاً: ترشيد استهلاك الطاقة واستعمال مصادر متجددة ونظيفة للطاقة.
ثانياً: ترشيد استهلاك الثروة المائية، وحمايتها من التدهور من الناحيتين الكمية والنوعية.
ثالثاً: منع وخفض وتدوير المخلفات الصلبة.
رابعاً: حماية صحة الإنسان من خلال وضع معايير خاصة لنوعية الهواء والماء والتربة.
خامساً: حماية الثروات البيئية والثقافية الطبيعية.
وبعد هذه المبادرات البيئية التي تبنتها اللجنة الأولمبية الدولية وعمَّمتها على كل دول العالم، أصبحت الدول الآن عند تقديمها طلب استضافة أي حدث رياضي على جميع المستويات، تتنافس وتتسابق في تقديم ما هو الأفضل للبيئة والأكثر حماية لمواردها وثرواتها الطبيعية الحية وغير الحية، فالمحافظة على البيئة وبالتحديد جودة الهواء تُعتبر من أهم عوامل نجاح الدورة الرياضية بسبب توفير البيئة الخالية من التلوث، والتي تؤدي إلى تحطيم المتسابقين للأرقام القياسية السابقة.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك