أشرت في المقال السابق إلى الرؤية الإقليمية لأمن الملاحة البحرية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر وكانت خلاصة المقال أن أمن الملاحة في تلك المنطقة ضرورة استراتيجية لدولها ليس فقط للملاحة ولكن على صعيد الأمن الإقليمي وتوازن القوى، ومع أهمية تلك النتيجة فإن للقوى الكبرى مصالح متعددة ومتنوعة في تلك المنطقة سواء الدول أو المنظمات على غرار حلف شمال الأطلسي «الناتو» أو الاتحاد الأوروبي، وبالتالي فإن التساؤل الذي يتبادر إلى الأذهان كيف ترى تلك القوى أمن الملاحة في هذه المنطقة؟ وهل كانت خططها مجرد ردود وقتية أم أن هناك خططا استراتيجية بعيدة المدى؟ وقبيل الإجابة عن ذلك التساؤل لابد من التأكيد على ثلاث حقائق أولها: إن السيطرة على البحار هو جزء من التنافس الدولي المحتدم وقد أدركت الولايات المتحدة ذلك الأمر وماذا تعنيه القوة البحرية فأنشأت عدة أساطيل تتمركز في مفاصل استراتيجية من العالم وفي المقابل تسعى القوى الأخرى لموازنة ذلك الدور ومنها روسيا والصين، والثانية: اعتماد العديد من دول العالم ومن بينها القوى الكبرى على الممرات المائية الدولية في تجارتها بشكل مضطرد بما يجعل تأمينها ضرورة استراتيجية بل وأولوية حتى لو تتطلب الأمر تأسيس تحالفات لهذا الغرض كما قامت بذلك الولايات المتحدة لتأمين الملاحة البحرية في الخليج العربي والبحر الأحمر، والثالثة: إدراك القوى الكبرى العلاقة الوثيقة بين الأمن الإقليمي وأمن الممرات المائية بالنظر لوقوع تلك الممرات بالقرب من مناطق تشهد صراعات مزمنة وكذلك تشهد تنافسا محتدما على النفوذ بما يعنيه ذلك من أن جهود الدول الكبرى لحماية الملاحة البحرية لابد وأن تشمل تسوية الصراعات الإقليمية.
وبنظرة فاحصة على رؤى الدول الكبرى والمنظمات بشأن الأمن البحري نجد أنها إما جاءت ضمن استراتيجيات الأمن القومي للدول أو كاستراتيجيات منفصلة شهدت تطوراً مع تطور تهديدات ذلك الأمن من ناحية وزيادة وتيرة التنافس الدولي من ناحية ثانية، وقد يكون من الصعب شرح مضامين تلك الاستراتيجيات بشكل تفصيلي ولكن أهمها الاستراتيجية الأمريكية للأمن البحري عام 2020، فضلاً عن إشارة استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2022 لتهديدات الأمن البحري وكان لافتاً أنها أشارت وبشكل صريح إلى أن «الولايات المتحدة لن تسمح لأية قوة أجنبية أو إقليمية بتعريض حرية الملاحة للخطر في الممرات المائية في الشرق الأوسط بما في ذلك هرمز وباب المندب»، أما الصين بالإضافة إلى إعلانها السعي لتأسيس قواعد لوجيستية وقواعد في الخارج فإنها تسعى إلى تطوير عدد من حاملات الطائرات، وكذلك الاتحاد الأوروبي الذي أصدر استراتيجية متكاملة للأمن البحري وعلى الرغم من عدم الإشارة إلى منطقة الشرق الأوسط بشكل مباشر فقد تضمنت الاستراتيجية «المخاطر والتهديدات الأمنية للمصالح البحرية للاتحاد الأوروبي ومنها النزاعات بين الدول، الانتشار، منْع الوصول إلى البحر أو عرقلته، الجريمة عبر الحدود الوطنية، الإرهاب والتهديدات البيئية»، بالإضافة إلى استراتيجية الأمن البحري لدى حلف الناتو منذ عام 2012، وكذلك العقيدة البحرية الروسية الصادرة عام 2022 والتي تضمنت أنه من بين أهدافها وجود نقاط ضمان لوجستية- فنية في البحر الأحمر.
ومع أنه من المهم قراءة تلك الاستراتيجيات والتي لم تكن نتيجة التهديدات الراهنة للأمن البحري بل إنها صدرت منذ سنوات عديدة لإدراك القوى الكبرى أهمية البحار كما أشرت ولكنها تطورت مع تطور التهديدات من ناحية واحتدام التنافس الدولي حول الممرات المائية الدولية من ناحية ثانية.
ومع أهمية تلك الاستراتيجيات فإنه من المهم أيضاً التعرف على ما أسفرت عنه بالنسبة إلى الأمن البحري في منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر، كان واضحاً أن تهديد الأمن البحري وانعكاس ذلك على أمن الطاقة اعتبرته الإدارات الأمريكية كافة تحدياً لمصالحها الحيوية وهو ما يفسر قيادة الولايات المتحدة لثلاثة تحالفات عسكرية استهدفت بشكل أساسي حماية الملاحة البحرية وهي «عملية الإرادة الجادة» خلال الحرب الإيرانية- العراقية في الثمانينيات، والتحالف العسكري لأمن الملاحة البحرية في الخليج العربي عام 2019 وصولاً إلى تحالف حارس الازدهار عام 2023، وعلى الصعيد ذاته على الرغم من السياسة الأوروبية التي لا تنخرط في تحالفات عسكرية فقد دعمت بعض الدول الأوروبية الولايات المتحدة خلال عملية «الإرادة الجادة»، ثم اضطلعت أوروبا بدور مباشر وإن لم يكن عسكرياً في حماية الملاحة البحرية في مضيق هرمز من خلال تأسيس قيادة فرنسا بعثة أوروبية لمراقبة الملاحة في مضيق هرمز عام 2020 ثم إعلان الاتحاد الأوروبي إرسال بعثة أوروبية لحماية الملاحة في البحر الأحمر في فبراير 2024 وتتضمن ثلاث سفن حربية أوروبية وأنظمة إنذار مبكر محمولة جواً إلى البحر الأحمر وخليج عدن والمياه المحيطة مع تأكيد أن هدفها سيكون دفاعيا فقط وستكون قيادتها في اليونان، مع الأخذ بالاعتبار أن حلف الناتو لم يسهم في تلك الجهود ولكن الحلف لديه بالفعل بعثة وهي «عملية درع المحيط» بدأها عام 2009 لمكافحة القرصنة قبالة سواحل الصومال والقرن الإفريقي، مع الأخذ بالاعتبار أن الحلف لديه شروط محددة للتدخل في الأزمات ومنها ضرورة وجود قرار أممي يتضمن مطالبة المنظمات الإقليمية بتلك المساهمات.
ولكن التساؤل الأهم هل سوف تسفر تلك الجهود عن وجود آلية دولية دائمة لتأمين الملاحة البحرية في باب المندب والبحر الأحمر؟ صحيح أن تلك الجهود ترتبط بالتصعيد من جانب جماعة الحوثي ولكن لا ينفي ذلك أنه قبل ذلك التصعيد فإن المنطقة تشهد تنافسا بالقرب من الممرات المائية ويعكس ذلك الوجود العسكري الكثيف في منطقة القرن الإفريقي من خلال 19 قاعدة عسكرية تديرها 16 دولة وفقاً لأحد تقارير المراكز البحثية الدولية بما يعنيه ذلك من عسكرة الممرات المائية الدولية التي يفترض أن تكون آمنة للملاحة ويرتبط ذلك بطبيعة العلاقات مستقبلاً بين قوات تلك الدول توافقاً أو تعارضاً.
ولا يعني ما سبق أن هناك نظرة حدية ما بين ما هو إقليمي وما هو عالمي، فتأمين الممرات المائية الدولية يمثل مجال التقاء حتمي بين مستوى الأمن الإقليمي ونظيره العالمي على نحو ما أكدته الأزمات التي شهدتها المنطقة، فضلاً عن مساهمات الأطراف الإقليمية في جهود تأمين الملاحة مع القوى الدولية وهناك أطر تضم الجانبين، بالإضافة إلى المناورات المشتركة التي تحمل رسائل ردع مهمة ولكن ما أود تأكيده هو مع أهمية الجهود الدولية لأمن الملاحة فإن الخشية أن تسفر عن ترتيبات أمنية جديدة تؤدي إلى ترتيبات مضادة تضم أطرافا إقليمية وأخرى دولية.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك