تنص الأعراف الدولية والحقوقية والإنسانية وكل الأنظمة والقوانين التي صدرت من خلال التشريعات السماوية أو حتى الإنسانية أنه يمنع تجويع الإنسان وفي أي ظرف كان، وهذه بديهية لا يمكن مناقشتها أو حتى إنكارها أو غض الطرف عنها.
والتجويع –حسب تعريفات العُرف الدولي– هو تلك الممارسات أو الإجراءات أو العمليات التي تؤدي إلى تدمير أو إزالة أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، مثل المواد الغذائية والمناطق الزراعية والمراعي والثروة الحيوانية والمنشآت وإمدادات مياه الشرب وأعمال الري، وقوارب الصيد، أو تلويث المناطق الحيوية بالألغام ومخلفات الحرب، أو فرض الإتاوات غير القانونية على الأعمال والمنشآت التي تدر دخولًا على أصحابها والعاملين فيها.
ويضيف كتاب (القانون الدولي الإنساني العرفي – المجلد الأول) أن التجويع لا يعني فقط الحرمان من السلع الأساسية أو التزويد غير الكافي بها، بل تشمل سلع غير غذائية لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين، كالأدوية والبطانيات في بعض الحالات.
وتاريخيًا يبدو أنه خلال الحربين العالميتين أثيرت حروب التجويع على الملأ، إذ عانت الجماهير المدنية المحاصَرة من التجويع، ثم جرى بعد ذلك النظر في شرعية تجويع المدنيين مع الجيش لإجبار العدو على الاستسلام حتى في الحالات التي كانت فيها الضحايا في معظمها من المدنيين.
وبعيدًا عن البنود والنصوص القانونية، ولكن لا بد مما ليس له بُد، فإننا إن أردنا أن نؤصل لمفهوم (حرب التجويع)، فإنه لا بد من ذكر بعض البنود، منها نصّ في عام 1919، في تقرير لجنة المسؤوليات التي أنشئت في أعقاب الحرب العالمية الأولى على أن (تعمّد تجويع المدنيين) يشكّل انتهاكًا لقوانين وأعراف الحرب، ويعرّض من يقوم به للملاحقة الجزائية. وقد قُنّن حظر التجويع كأسلوب من أساليب الحرب في المادة [54 (1)] من البروتوكول الإضافي الأول. وبشكل عام، اعتُبر هذا الحكم جديدًا عند اعتماد البروتوكول الإضافي الأول، ولكنه ترسّخ منذ ذلك الحين كقاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي. وبمقتضى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإنّ (تعمّد تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب) يشكّل جريمة حرب في النزاعات المسلحة الدولية.
ويرد حظر التجويع في عديد من كتيّبات الدليل العسكري، وبمقتضى تشريعات الكثير من الدول، إذ يعتبر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب جرمًا. وتدعم بيانات رسمية وممارسة أخرى هذه القاعدة، وتشمل هذه الممارسة تلك الخاصة بدول ليست، أو لم تكن في حينه، أطرافًا في البروتوكول الإضافي الأول، وقد أدينت الممارسة المناقضة بشكل عام، أو تبرأ منها الطرف الذي اتهم بها.
حسنٌ، هذه هي الأعراف وهذه هي القوانين، ترى ماذا يحدث الآن في غزة مع ملاحظة ترتيب التواريخ التي صدرت فيها التصريحات؟
في 5 ديسمبر 2023 وبحسب (برنامج الأغذية العالمي)، التي قالت إن هناك خطرا جديا من التجويع والمجاعة في غزة، قال مسؤولون في الأمم المتحدة إن 1.9 مليون شخص، أي أكثر من 85% من سكان غزة، نازحون داخليًا، وقالوا إن الظروف في المنطقة الجنوبية من قطاع غزة الآخذة في التقلص قد تصبح كالجحيم أكثر فأكثر.
وفي اليوم نفسه صرّح كبير مسؤولي الإغاثة في الأمم المتحدة (مارتن غريفيث) بأن الحملة العسكرية الإسرائيلية في جنوب غزة أدت إلى ظروف (مروعة)، ما جعل من المستحيل القيام بعمليات إنسانية مجدية.
قال تقرير (هيومن رايتس ووتش) نشر في 18 ديسمبر 2023 «إن الحكومة الإسرائيلية تستخدم تجويع المدنيين أسلوبًا للحرب في قطاع غزة المحتل، ما يشكل جريمة حرب. يتعمد الجيش الإسرائيلي منع إيصال المياه، والغذاء، والوقود، بينما يعرقل عمدًا المساعدات الإنسانية، ويبدو أنه يجرّف المناطق الزراعية، ويحرم السكان المدنيين من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم».
قال عمر شاكر مدير شؤون إسرائيل وفلسطين في (هيومن رايتس ووتش) في التقرير نفسه: «لأكثر من شهرين، تحرم إسرائيل سكان غزة من الغذاء والمياه، وهي سياسة حث عليها مسؤولون إسرائيليون كبار أو أيّدوها وتعكس نية تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب. على زعماء العالم رفع أصواتهم ضد جريمة الحرب البغيضة هذه، ذات الآثار المدمرة على سكان غزة».
ويستمر التقرير فيقول: تُظهر صور الأقمار الصناعية عالية الدقة استخدام الجرافات لتدمير الحقول والبساتين، ويمكن رؤية آثار سير الجرافات، بالإضافة إلى أكوام من التراب على أطراف الأراضي الزراعية السابقة. وسواء كان السبب يعود إلى التجريف المتعمد، أو الأضرار الناجمة عن القتال، أو عدم القدرة على ري الأرض أو استصلاحها، فقد تقلصت الأراضي الزراعية في شمال غزة بشكل كبير منذ بداية العمليات البرية الإسرائيلية، كما تضررت المزارع والمزارعون في جنوب غزة.
ووجدت منظمة (العمل ضد الجوع) أن من بين 113 مزارعًا من جنوب غزة شملهم الاستطلاع بين 19 و31 أكتوبر 2023 قال إن 60% من ممتلكاتهم و/أو محاصيلهم تضررت، و42% أنهم لا يستطيعون الحصول على المياه لري مزارعهم، و43% إنهم لم يتمكنوا من حصاد محاصيلهم.
في يناير 2024 قال خبير المجاعة (أليكس دي وال) في الأمم المتحدة: إن المجاعة تحدث بالفعل في أجزاء من قطاع غزة، حيث فرضت إسرائيل حصارًا كاملاً على القطاع منذ أكثر من ثلاثة أشهر ونفذت عملية عسكرية حملة قصف واسعة النطاق الذي دمرت الكثير من البنية التحتية اللازمة لاستمرار الحياة. والتجويع المتعمد للمدنيين هو جريمة حرب والادعاء أن إسرائيل تخلق خطر الموت جوعًا في غزة هو أمر محوري في القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية متهمة إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية. ويواصل ويقول: قريبًا، فلن يمر وقت طويل قبل أن يبدأ الأطفال الصغار في الموت بأعداد كبيرة من الجوع والمرض.
في 22 فبراير 2024 قال مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالحق في الغذاء، (مايكل فخري): «لا أستغرب إذا قلنا إن المجاعة ستكون شاملة بحلول نهاية هذا الشهر فبراير».
وأوضح فخري أنه حذر سابقًا، قبل تقدم قوات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، من «الوضع الخطير حيث يعاني الجميع في غزة من الجوع». وأشار إلى أن «ربع سكان غزة كانوا يعانون من الجوع في ذلك الوقت، وأن الجوع والمجاعة الخطيرة كانا يقتربان»، وأضاف أن بعض الدول قررت بعد تلك الفترة تعليق المساعدات لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وهي أهم وكالة مساعدات إنسانية في غزة.
وأضاف أنه «لا أحد يعلم إلى متى يمكن لسكان غزة الصمود على هذا الوضع، فالمساعدات التي تصل إليهم غير كافية لإبقائهم على قيد الحياة»، وحذر من أن مشكلة الجوع تتمثل في كونه «موتًا بطيئًا ومؤلمًا، ويتواصل تأثيره لأشهر وسنوات بل وعقود قادمة».
وأضاف موضحًا: «حتى لو تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار اليوم، فإن الجوع سيؤثر سلبًا على مستقبل أكثر من مليون طفل يعيشون في غزة، 335 ألف طفل دون سن الخامسة من بين هؤلاء معرضون لخطر الإصابات الجسدية الدائمة على المدى الطويل، بما يشمل ضعف الإدراك».
وحذر من أن «مستوى الجوع الحالي في غزة لم نشهده سابقًا، حيث لم نر من قبل شعبًا بأكمله يعاني من الجوع»، في إشارة إلى سكان القطاع البالغ عددهم أكثر من 2.2 مليون شخص.
وفي 26 فبراير 2024 اتهمت منظمة (هيومن رايتس ووتش)، دولة الاحتلال بعدم تطبيق قرارات محكمة العدل الدولية في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب إفريقيا شهر يناير، وقالت المنظمة إن الحكومة الإسرائيلية لم تلتزم بإجراء واحد على الأقل في الأمر الملزم قانونًا الصادر عن محكمة العدل الدولية في قضية الإبادة الجماعية.
وأمرت المحكمة دولة الاحتلال في 26 يناير الماضي بـ(اتخاذ تدابير فورية وفعالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها)، وأن تفعل كل ما في وسعها لمنع الإبادة الجماعية، وتقديم تقرير عن امتثالها للقرارات خلال شهر واحد.
وقالت هيومن رايتس ووتش إنه «بعد مرور شهر، تواصل إسرائيل عرقلة توفير الخدمات الأساسية ودخول وتوزيع الوقود والمساعدات المنقذة للحياة داخل غزة، وهي بمثابة عقاب جماعي، ترقى إلى مستوى جرائم حرب وتشمل استخدام تجويع المدنيين كسلاح من أسلحة الحرب».
وأضافت المنظمة أنه في الأسابيع العديدة التي تلت صدور الحكم، مقارنة بالأسابيع التي سبقته «دخل عدد أقل من الشاحنات إلى غزة، وتم السماح لعدد أقل من بعثات الإغاثة بالوصول إلى شمال غزة، وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)».
واعتبر مدير مكتب إسرائيل وفلسطين في هيومن رايتس ووتش، عمر شاكر، أن «الحكومة الإسرائيلية تقوم بتجويع 2.3 مليون فلسطيني في غزة، مما يعرضهم لخطر أكبر مما كانوا عليه قبل أمر المحكمة الدولية الملزم».
وأضاف: «لقد تجاهلت الحكومة الإسرائيلية ببساطة حكم المحكمة، وفي بعض النواحي كثفت قمعها، بما في ذلك عرقلة المساعدات المنقذة للحياة».
هكذا تدار الحرب في غزة اليوم، التجويع يضرب شعبًا بأكمله، وهذا غيض من فيض، دولة الاحتلال لا تستطيع أن تواجه المقاتل، فتتجه إلى المواطن البريء الذي ليس له حول ولا قوة، والعالم يسمع ويندد، ولكنه لا يحرك ساكنا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك