القرآن الكريم الذي يسره الله تعالى للمؤمنين، وربما لغيرهم، له فلسفة في النظر إلى أركان الإسلام التي أشار إليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حديثه المشهور، والذي رواه الإمام البخاري في صحيحه، يقول صلوات ربي وسلامه عليه: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان».
هذه الأركان الخمسة لها فلسفة، وحكمة لا يمكن إدراكها، ومعرفة مقاصدها وغاياتها إلا بالتدبر الذي أمرنا الله تعالى به عند تلاوة القرآن، فقال سبحانه وتعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) سورة ص/ 29.
هذا الأمر الإلهي الواجب حتميًّا يجعلنا لا نتخلف عن ركب المتدبرين لآيات الذكر الحكيم، بل نبادر في ورع وخشية ألا نكون من الذين يكتفون بالحفظ والتلاوة فقط، ونحن مأمورون بما هو أعظم منهما لأنه مهما تلونا القرآن، وحفظنا آياته وسوره، فإنه واجب علينا أن نحسن العمل بما يأمرنا الله تعالى، وبما ينهانا عنه جل جلاله، وتقدست أسماؤه وصفاته، وبلوغ الغاية والمنتهى المترتب على هذا التدبر المبارك.
إذًا، فالركن الأول من أركان الإسلام هو التوحيد، وهو الأساس الرشيد إذًا انهار، أو أصابه شيء من الوهن إنهار البناء كله، وهذه الأركان على جلال قدرها، وعظيم أمرها لا تمثل الإسلام كله، بل هي فقط أركان الإسلام، أما الإسلام، فهو: العقيدة، والشريعة، والعبادات، والأخلاق، والمعاملات.
إذًا، فالتوحيد هو الأساس المكين الذي يجب علينا مراعاته، والمحافظة عليه من أن يصيبه شيء من الضعف، ويجب علينا ألا نفارقه أو أن ننحرف عن حصنه الحصين، يقول سبحانه وتعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالًا بعيدا) سورة النساء / 116
إذًا، فالشرك ذنب عظيم ٫ وليس معصية يمكن التجاوز عنها، وخاصة أنها في جنب الله تعالى، فالله تعالى يقبل التوبة عن الذنب جمعًا دون الشرك، ويعفو عن السيئات أما الشرك فلا سبيل إلى الرجوع عنه إلا بالرجوع إلى التوحيد الخالص من أية شوائب، ولهذا أكد الحق سبحانه وتعالى على سعة عفوه، وعظيم مَنِّه ومغفرته، فقال تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم) سورة الزمر / 53.
أما الركن الثاني، وهو الصلاة التي فرضها الله تعالى على المسلمين خمس مرات في اليوم والليلة، وجعلها تتخلل حياة المسلم لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإن لم تفعل ووقع المسلم في الخطأ أو الخطيئة، فهي تطهير للعبد من الذنوب التي قد يقع المسلم فيها في حياته اليومية، قال تعالى: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون) سورة العنكبوت / 45. هذه الآية من سورة العنكبوت عن النهي عن الوقوع في الذنوب، أما عن التوبة بعد الوقوع في الذنب، فقد قال الله تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكر للذاكرين) سورة هود / 114.
أما عن فلسفة الإسلام في فريضة الزكاة، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام، فيقول الله تعالى عنها: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم) (سورة التوبة / 103)، والعجيب في فريضة الزكاة أنها تعطيك قبل أن تبذلها للفقراء والمساكين حين تحرص على الكسب الحلال لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، ثم بعد ذلك قد تستطيع أن تزكي، وقد لا تستطيع بسبب عدم توافر الشروط الموجبة لإخراج الزكاة من مالك، لكنك بالتأكيد قد أخذت بركة الزكاة بعطائها لأن كل أفعالك وأقوالك مقبولة عند الله تعالى، يقول سبحانه وتعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم) سورة التوبة / 103. لقد وصف الحق سبحانه وتعالى الزكاة الواجبة على المؤمن عند توفر شروطها بأنها حق معلوم، وأما الحق الذي هو خارج الزكاة، ولولي الأمر الحق في أن يتقاضاه من الأغنياء، فيصفه بأنه حق للسائل والمحروم دون أن ينص على أنه معلوم، وذلك حين لا تفي أموال الزكاة بحاجات الأصناف الثمانية الذين ذكرتهم أية الزكاة في قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفِي الرقاب والغارمين وفِي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) سورة التوبة / 60.
وتنفرد فريضة الحج عن باقي الفرائض، وهي الركن الرابع إما باشتراط الاستطاعة ليؤديها المسلم، يقول تعالى: (.. ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) (سورة آل عمران / 97)، والاستطاعة فسرها العلماء بأنها: توفر النفقة للحج، ولمن تلزم الحاج نفقته حين يغيب الكافل في الحج، وخلو الحاج من المرض، وأمن الطريق، وإن تعذر شرط من هذه الشروط يؤجل أداء فريضة الحج إلى عام قابل، ولا حرج في ذلك، والأفضل أن يؤديها متى ما توافرت شروطها ولا يسوف لأن الإنسان لا يدري متى يأتيه أجله.
ونأتي الآن إلى الركن الخامس من أركان الإسلام، وهو الصوم، وهي العبادة التي تربي في المسلم روح المراقبة، والصبر والاحتمال، وشهر رمضان الذي فرض فيه الصيام اجتمعت فيه مراتب الجلال والجمال لأنه عظيم البركة عن بقية شهور السنة ولأن فيه ليلة هي أعظم من شهور السنة كلها، هي ليلة القدر، ليلة نزول القرآن فيها، قال تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) سورة البقرة / 185.
إنه شهر عظيم تحققت فيه إرادة اليسر الإلهية، ورفع الحرج عن المسلمين، فالله تعالى، الرحمن الرحيم يريد اليسر لعباده، ولا يريد لهم العسر، أما الشيطان الرجيم، فيريد لهم العسر ولا يريد لهم اليسر، فإلى من يلجأ المؤمن، وبمن بحتمي حتى لا يغويه الشيطان، ويزين له مواطن الفساد والإفساد، وهو الذي – أي الشيطان– قد أقسم ليقعدن للمؤمنين صراط ربهم المستقيم.
في شهر رمضان تتجلى للمؤمن ملكات ما كان يدري أنها موجودة فيه، وإذا كان في بقية شهور السنة قادرا على أن يمتنع عن المعاصي والوقوع في السيئات، وله في الانتهاء عن المعاصي أسباب تبغضه فيها، ولها علة معروفة تمنعه من الوقوع في المعصية أو على الأقل تخفف من تأثيرها فيه، فما علة الامتناع عن المباحات في شهر رمضان عندها تتجلى الحكمة الإلهية من تحريم الحلال من الطعام والشراب والنساء نهار رمضان إلا أن تكون علة ذلك طاعة الله تعالى.
هذا هو الإسلام، وهذا هو القرآن، وهذه هي فلسفته في الأركان، وحكمها الجليلة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك