في الوقت الذي تحرص فيه إيران على تحريك أذرعها في غير مكان من العالم العربي، تسخينا لجبهتها المفتوحة مع الولايات المتحدة ومن خلالها مع إسرائيل، جاءت الضربات الصاروخية التي وجّهها حرسها الثوري إلى أربيل، عاصمة إقليم كردستان في العراق، لتؤكّد أنّ جبهتها الحقيقية تقع في مكان آخر... مكان رخو لن يسبّب لها ظهورها المباشر فيه أي عواقب تُذكر.
فبالرغم من أنّ الحكومة العراقية لم تكتف بالتنديد والاستنكار هذه المرّة، بل استدعت سفيرها في طهران وقدّمت شكوى إلى مجلس الأمن، غير أنّ الأمور لن تذهب أبعد من ذلك. فلا إيران ستتلقّى رداً عسكرياً كما حدث لها مع باكستان، ولا الحكومة العراقية ستشعر بالحَرج أمام مطالب حكومة الإقليم الكردي بأن يكون ردّها أكثر صرامة وتشدّداً، بما يضع حداً للضربات الإيرانية المتكرّرة. فالحكومة لا تجرؤ على اتخاذ خطوة تقع خارج تقديرات تحالف الإطار التنسيقي، الذي هو مجموعة الأحزاب والمليشيات الموالية لإيران، ذلك لأنّ التحالف المذكور يشكّل المرجعية الوحيدة لشرعية حكومة محمد شياع السوداني. وهي شرعية يمكن سحبها إذا ما شعر أعضاء التحالف، وكلهم من الصقور، أنّ الأداء الحكومي يضرّ بمصالح إيران أو على الأقل يزعجها.
من جهة أخرى، لم يعد خافياً أنّ علاقة التحالف بالحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يدير شؤون الحكم في الإقليم، هي ليست على ما يرام منذ الاستفتاء المشؤوم الذي دعا إليه مسعود البرزاني عام 2017، وكانت نتيجته لصالح الانفصال عن العراق.
أدخلت إيران قصفها لأربيل ضمن جدول حربها المفتوحة ضدّ إسرائيل، وليست غزة إلا ظرفا طارئا. هي حاولت أن تضعه في إطار أمنها القومي حين أدّعت أنهّا دمّرت بصواريخها البالستية مقراً للموساد. تلك رواية يمكن تصديقها حتى لو كانت غير حقيقية. فليس غريباً على الزعامات الكردية القول بعلاقاتها التاريخية مع إسرائيل. هناك تبادل دائم للزيارات، حتى قبل قيام الإقليم الكردي الذي يمكن اعتباره دولةً مستقلةً غير محكومة بالقوانين العراقية التي لا تزال تجرّم التعامل مع إسرائيل.
أما عن نشاط الموساد داخل الإقليم، فهو ما لم ينكره الأكراد أنفسهم. غير أنّ القصف الذي نُفّذ بصواريخ إيرانية حديثة الصنع يُقال إنّها دقيقة جداً، قد أودت بحياة تاجرين، أحدهما كردي والثاني مسيحي تقيم عائلته بين لندن والإمارات. لم يُعرف عن التاجرين أي نشاط سياسي من قبل. وكما جاء في بيان الحرس الثوري، فإنّ تلك الضربة جاءت انتقاماً لما تعرّضت له إيران من تفجيرات في الآونة الأخيرة، وخصوصاً ذلك الانفجار الذي أودى بحياة أكثر من 100 شخص كانوا يحيون ذكرى مقتل قاسم سليماني. لم تخطئ الصواريخ هدفها، غير أنّ ما يمكن توقّع حدوثه أن يكون ذلك الهدف قد حُدّد بناءً على وشاية رخيصة هي جزء من عملية تصفية حسابات محلية.
في ظلّ الفساد الإداري والمالي السائد في العراق، ولا يمكن استثناء إقليم كردستان منه، فإنّ تداخل السياسي بالتجاري يؤدي أحياناً إلى لجوء الأطراف المعنية إلى تصفية بعضها والبعض الآخر. وليس من المستبعد أن يكون واحد من الأطراف المعنية قد ارتبط بالحرس الثوري الإيراني.
في كل بيان تندّد فيه الحكومة بالقصف الذي تتعرّض له أراضيها، هناك فقرة تؤكّد «انتهاك السيادة العراقية»، غير أنّ المتتبع للشأن العراقي يعرف أنّه ما من عبارة جرى الاختلاف عليها وأصبحت نوعاً من وجهات النظر مثل «السيادة العراقية» أو «سيادة العراق على أراضيه». ولتبسيط المسألة، يمكن اختصارها بسؤال مزدوج هو: «من أين تبدأ الأراضي العراقية وأين تنتهي؟ لكي نعرف أين تقع السيادة العراقية التي يفرض الدستور على الحكومة العراقية مهمّة الدفاع عنها وحمايتها». فإذا وضعنا الإقليم الكردي جانباً، فإنّ هناك الكثير من الأراضي العراقية تمّ اعتبارها من ممتلكات الحشد الشعبي ولا تخضع لسلطة الحكومة، ولا يجرؤ رئيس الوزراء أو أي مسؤول حكومي آخر على دخولها. تلك مناطق تقع خارج السيادة العراقية بالرغم من أنّها لم تنفصل عن الخريطة المدرسية.
أما دولة كردستان فلم يقف فشل مشروع استفتاء الانفصال بينها وبين الاستقلال. كانت الخلافات شكلية وهي تخصّ التسمية. غير أنّ الواقع يقول غير ذلك. في مؤتمر دافوس الأخير كان محمد شياع السوداني حاضراً ممثلاً لدولة العراق وإلى جانبه مسرور البرزاني، لا باعتباره جزءاً من وفده بل باعتباره ممثلاً لدولة أخرى هي كردستان. ما يُقال عن السيادة العراقية في الإقليم الكردي لا يمتّ بصلة إلى الواقع. وحين تُصدر القيادات الكردية بيانات لحضّ الحكومة العراقية على الدفاع عن السيادة، فهي تضحك على الآخرين من غير أن تكتشف أنّها تعرّض نفسها للسخرية. ولأنّ إيران تعرف كل شيء، فإنّها لا تردّ. لكن ما معنى العودة إلى حرب الصواريخ التي كان العراقيون قد عاشوها ثمانينات القرن الماضي؟
بناءً على الحقائق الجيوسياسية، فإنّ التقديرات الإيرانية فيما يتعلق بالتعامل مع الإقليم الكردي، خاطئة كانت أم صائبة على حدّ سواء، تصبّ في مصلحة حكومة بغداد. فلا شيء يؤكّد أنّ في إمكان العراق أن يستعيد شماله. لقد سبق الأكراد الجميع في الاستفادة من حالة التفكّك التي عاشها العراق بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 وأقاموا دولتهم الهشة التي لم تنه خصوماتهم العشائرية. أغلقوا حدودهم مع العراق العربي ورفعوا أعلامهم وفتحوا سفارات تمثلهم في العديد من عواصم العالم الرئيسة. صار لهم رئيس ومجلس وزراء وبرلمان، وإضافة إلى كل ذلك، فقد اقتطعوا لأنفسهم في نظام المحاصصة منصب رئيس الجمهورية ومناصب عديدة في مجلس الوزراء، كأن يكون وزير الخارجية كردياً.
غير أنّ الأخطر من ذلك كله يكمن في أنّ الإقليم الكردي صار مأوى ثابتاً للجماعات المسلّحة المناوئة لجارتي العراق، إيران وتركيا. وهو ما جرى تسويقه على أساس كونه سبباً مقنعاً لانتهاك سيادة الإقليم، بعد أن غدا واضحاً أن لا سيادة للعراق على أراضيه. لذلك فإنّ الهجوم الصاروخي الإيراني، وإن لم تُحط به الحكومة العراقية خبراً في وقت مسبق، لا يتعارض مع الاتفاق الأمني الذي وقّعته مع الحكومة الإيرانية، والذي ينص على نزع سلاح تلك الجماعات. وبهذا تكون إيران وفق مزاعمها قد نفّذت الجزء المطلوب منها في ذلك الاتفاق.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك