في شهر فبراير 2024م، كان المستشار الألماني أولاف شولتز في واشنطن في زيارة رسمية، تهدف إلى العمل بشكل مشترك مع الولايات المتحدة الأمريكية «للتأكد من أن إسرائيل لديها ما تحتاجه للدفاع عن نفسها».
إذا صدر مثل هذا التصريح بعد وقت قصير من عملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر 2024م، فيمكن للمرء أن يعرف منطقه، القائم على الانحياز المتأصل المعروف لدى كل من واشنطن وبرلين تجاه إسرائيل.
لكن البيان والزيارة تم إجراؤهما في اليوم الـ125 لواحدة من أكثر عمليات الإبادة الجماعية دموية في التاريخ الحديث.
وقد تم تسليط الضوء على الغرض من الزيارة في مؤتمر صحفي عقده المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي، على الرغم من أن الرئيس الأمريكي جو بايدن اعترف بعد ساعات بأن إسرائيل تجاوزت «الحدود» في ردها على هجوم حماس في 7 أكتوبر.
إذا كان قتل وجرح أكثر من 100 ألف مدني، والعدد في ازدياد، هو النسخة الإسرائيلية للدفاع عن النفس، فإن كلاً من شولتز وبايدن قاما بعمل رائع في ضمان حصول إسرائيل على كل ما تحتاجه لتحقيق مهمتها الدموية.
لكن في هذا السياق من يحق له الدفاع عن النفس، إسرائيل أم فلسطين؟
في زيارتي الأخيرة لمستشفى في إحدى دول الشرق الأوسط والتي ظلت سرية كشرط مسبق لزيارتي، شهدت أحد أفظع المشاهد التي يمكن أن يراها أي شخص على الإطلاق. عشرات من الأطفال الفلسطينيين بلا أطراف، بعضهم مازال يقاتل من أجل حياته، وبعضهم مصاب بحروق بالغة والبعض الآخر في غيبوبة.
أولئك الذين تمكنوا من استخدام أيديهم قاموا برسم الأعلام الفلسطينية وعلقوها على الجدران بجانب أسرّتهم في المستشفى. ارتدى البعض قمصان «سبونج بوب» والبعض الآخر قبعات عليها شخصيات ديزني. لقد كانوا أنقياء، وأبرياء، وفلسطينيين إلى حد كبير.
قام اثنان من الأطفال بإظهار علامة النصر بمجرد أن قلنا وداعًا. أراد الأطفال الصغار أن ينقلوا إلى العالم أنهم يظلون أقوياء وأنهم يعرفون بالضبط من هم ومن أين أتوا.
كان الأطفال أصغر من أن يدركوا السياق القانوني والسياسي لمشاعرهم القوية تجاه وطنهم.
لقد أكد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3236 (التاسع والعشرون) «حق الشعب الفلسطيني غير القابل للتصرف في فلسطين (..)، والحق في تقرير المصير، (و) الحق في الاستقلال الوطني والسيادة الوطنية».
ربما تكون عبارة «حق الفلسطينيين في تقرير المصير» هي العبارة الأكثر تكرارًا فيما يتعلق بفلسطين والنضال الفلسطيني منذ إنشاء منظمة الأمم المتحدة.
وفي يوم 26 يناير 2024م، أكدت محكمة العدل الدولية أيضًا ما نعرفه بالفعل، وهو أن الفلسطينيين هم «مجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية» متميزة.
إن هؤلاء الأطفال الفلسطينيين المصابين لا يحتاجون إلى لغة قانونية أو شعارات سياسية لتحديد مكان وجودهم. إن الحق في العيش دون خوف من الإبادة، ودون قنابل، ودون احتلال عسكري هو حق طبيعي، لا يتطلب أي حجج قانونية وغير منزعج من العنصرية أو خطاب الكراهية أو الدعاية.
ولكن من المؤسف أننا لا نعيش في عالم يسوده المنطق السليم، بل في عالم من الأنظمة القانونية والسياسية المقلوبة رأسا على عقب والتي وجدت لتلبية احتياجات الأقوياء فقط.
في هذا العالم الموازي، يشعر شولتز بالقلق إزاء قدرة إسرائيل على «الدفاع عن نفسها» أكثر من السكان الفلسطينيين المحاصرين، الذين يتضورون جوعا وينزفون، لكنهم غير قادرين على تحقيق أي قدر ملموس من العدالة.
وعلى الرغم من ذلك، لا يزال لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها.
ومن الناحية المنطقية، لا ينبغي لأولئك الذين ينفذون أعمال العدوان أن يطالبوا ضحاياهم بالامتناع عن الرد.
لقد وقع الفلسطينيون ضحية الاستعمار الإسرائيلي والاحتلال العسكري والفصل العنصري والحصار والآن الإبادة الجماعية. ولذلك فإن قيام إسرائيل بتفعيل المادة 51 من الفصل السابع من ميثاق منظمة الأمم المتحدة يعد استهزاء بالقانون الدولي.
أما المادة 51، التي كثيراً ما تستخدمها القوى العظمى لتبرير حروبها وتدخلاتها العسكرية، فقد تم تصميمها بروح قانونية مختلفة تماماً.
وتحظر المادة 2 (4) من الفصل الأول من ميثاق منظمة الأمم المتحدة «التهديد باستعمال القوة أو استخدامها في العلاقات الدولية». كما «يدعو جميع الأعضاء إلى احترام سيادة الدول الأخرى وسلامتها الإقليمية واستقلالها السياسي».
وبما أن إسرائيل تنتهك المادة 2 (4)، فلا يحق لها ببساطة تفعيل المادة 51.
وفي شهر نوفمبر 2012م، تم الاعتراف بفلسطين كدولة مراقبة في منظمة الأمم المتحدة. وهي أيضًا عضو في عدد لا يحصى من المعاهدات الدولية، وتعترف بها 139 دولة من أصل 193 عضوًا في الأمم المتحدة.
وحتى لو قبلنا الحجة القائلة بأن ميثاق منظمة الأمم المتحدة لا ينطبق إلا على الأعضاء الكاملين في منظمة الأمم المتحدة، فلا يزال من الممكن ترسيخ حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن النفس.
وفي عام 1960، ضمن إعلان الجمعية العامة رقم 1594 الاستقلال للدول والشعوب المستعمرة، وعلى الرغم من أنه لم يناقش حق المستعمر في استخدام القوة، فإنه أدان استخدام القوة ضد حركات التحرير.
وفي عام 1964، صوتت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة لصالح القرار رقم 2105، الذي اعترف بشرعية «نضال» الدول المستعمرة لممارسة حقها في تقرير المصير.
وفي عام 1973، أصدرت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة القرار رقم 38/17 لعام 1983. وكانت اللغة هذه المرة واضحة لا لبس فيها؛ للشعب الحق في النضال ضد السيطرة الأجنبية الاستعمارية بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك الكفاح المسلح.
إن نفس الديناميكيات التي حكمت الأمم المتحدة في أيامها الأولى لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، حيث تستمر الدول الغربية، التي كانت تمثل الجزء الأكبر من كل القوى الاستعمارية في الماضي، في منح نفسها احتكار استخدام القوة.
وعلى العكس من ذلك، يصر الجنوب العالمي، الذي عانى تحت نير تلك الأنظمة الغربية، على أن له أيضًا الحق في الدفاع عن نفسه ضد التدخل الأجنبي والاستعمار والاحتلال العسكري والفصل العنصري.
وبينما كان شولتز في واشنطن لمناقشة المزيد من الطرق لقتل المدنيين الفلسطينيين، قدمت دولة نيكاراغوا طلبًا رسميًا للانضمام إلى جنوب إفريقيا في جهودها الرامية إلى محاسبة إسرائيل على جريمة الإبادة الجماعية في غزة.
ومن المثير للاهتمام كيف يواصل المستعمرون والدول التي عانت من الاستعمار بناء العلاقات والتضامن حول نفس المبادئ القديمة. ومرة أخرى يرتفع الجنوب العالمي تضامناً مع الفلسطينيين، في حين يواصل الشمال، مع بعض الاستثناءات، دعم القمع الإسرائيلي.
قبل أن أغادر المستشفى مباشرة، أعطاني طفل جريح صورة رسمها، حيث تظهر فيها عدة صور متداخلة كما لو كان الطفل الصغير يصنع تسلسلاً زمنيًا للأحداث التي أدت إلى إصابته: خيمة بداخلها جندي إسرائيلي يطلق النار على فلسطيني؛ قضبان السجن، ووالده بالداخل، وأخيراً مقاتل فلسطيني يحمل العلم.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك