لفت انتباهي خبر نُشر في مجلة «فوربس» المهتمة بالجوانب الاقتصادية والاستثمارية في 15 فبراير 2024 تحت عنوان: «مليارديرات يُكرسون شركاتهم لمساعدة ناسا في مهمتها للعودة إلى القمر». وجاء في الخبر أن هناك العديد من الشركات الخاصة التي يقودها، أو يدعمها المليارديرات، تضخ استثماراتها لاستكشاف الفضاء، وبالتحديد المهمات المتعلقة بالنزول على سطح القمر، ومنها شركة (Intuitive Machines) و(Astrobotic Technology)، و(Sierra Nevada Corporation)، وشركة إيلون ماسك الذي يمتلك منصة «إكس»، وشركة (Firefly Aerospace)، و(Moon Express)، وشركة (Vast) إضافة إلى عشرات الشركات الأخرى.
فلماذا إذن يتنافس أصحاب المليارات إلى غزو الفضاء العميق؟
ولماذا تتسابق الشركات العظمى بإنفاق المليارات لتحقيق السبق في النزول على سطح القمر من خلال الرحلات الدورية المستمرة؟
فلا شك لدي أن أصحاب المليارات لا يضعون أموالهم في أي مشروع عبثاً ودون أن يكون له جدوى مالي كبير ومضمون يدير عليهم بالربح الوفير والكبير والازدهار والنمو، وما من أدنى شك عندي بأن هذه الشركات الاستثمارية لا تُضيِّع ولا ترمي بثرواتها وأموال المساهمين على مشاريع فاشلة لا عوائد اقتصادية جمة منها.
فلا بد أن هناك صيداً ثميناً ووفيراً يمكن اغتنامه في ساحة الفضاء الشاسعة، ولا بد أن هناك كنزاً عظيماً مخزوناً في أرض القمر، مما يجعلهم يلهثون سريعاً وراء استغلاله لأنفسهم، واحتكاره لهم.
وجدير بالذكر فإنه علاوة على الدول التقليدية المعروفة منذ الستينيات من القرن المنصرم في ريادتها في غزوها للفضاء واستكشاف خفاياه وأسراره، وخاصة الهبوط على سطح القمر، وبالتحديد السباق والتنافس المحتدمين بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي سابقاً، وإضافة على هذه الشركات العملاقة الخاصة التي ولجت هذا المجال الاستثماري الجديد، فإن هناك في الوقت نفسه دولا نامية جديدة بدأت بالاهتمام بهذا المجال الفسيح والفرصة الاستثمارية الفريدة من نوعها، مثل كوريا الجنوبية، واليابان، والهند، ودولة الإمارات العربية المتحدة، .وفي تقديري فإن هناك عدة عوامل، بحسب كل شركة وكل دولة، تفسر بزوغ فجر هذه الظاهرة المتعاظمة دولياً والمتمثلة في الانتقال من الاستثمار فيما هو موجود على سطح الأرض، وباطن الأرض، وأعماق المحيطات المظلمة والشديدة البرودة، إلى الاستثمار في الفضاء العليا.
أما العامل الأول فهو رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في إشراك الدول والشركات في المساهمة في تمويل برامج استكشاف الفضاء بشكلٍ عام، وبرنامج الهبوط على سطح القمر مرة ثانية. فهذه البرامج باهظة التكاليف، وترهق كاهل أي دولة تنفق عليها وحدها من دون أي مساعدة خارجية، فهي تُقدر بمئات المليارات من الدولارات. وفي الوقت نفسه هناك دول نامية تريد تحقيق المجد والعزة والفخر لدولها وشعوبها من خلال الولوج في استكشاف الفضاء، ولن تنجح في ذلك إلا بالحصول على المعلومات والخبرة والتقنية، إضافة إلى الأجهزة والمعدات اللازمة لتنفيذ برامج الفضاء. فهذه الحالة تذكرني بالسباق المحموم بين الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا في إنتاج أول قنبلة ذرية، ثم دخلت دول أخرى في المنافسة منها بريطانيا، وفرنسا، والصين، وكوريا الشمالية، والهند، وباكستان، والكيان الصهيوني. فكل هذه الدول تَعْتَبر امتلاك قنبلة الدمار الشامل النووية هي للترهيب والردع، إضافة إلى تحقيق المجد والفخر القومي، وإنجاز التطور والتقدم العلمي في مجال إنتاج أسلحة الدمار الشامل الذرية.
وأما العامل الثاني فهو اقتصادي واستثماري طويل الأمد، حيث تريد هذه الشركات الكبرى، والدول التي تقف من ورائها أن «تحتل» القمر، وبالتالي تسخر وتستغل كل مواردها وثرواتها الطبيعية الموجودة على سطح القمر، كما فعلت بالضبط بالنسبة إلى خيرات وثروات الأرض. فبعد أن استنفدت الدول الصناعية المتقدمة كافة الموارد الأرضية الحية وغير الحية، واستغلتها أبشع استغلال وبشكل مفرط وعلى نطاق واسع، وبدأت هذه الموارد تشح يوماً بعد يوم، كان لا بد منها في البحث عن مواقع أخرى أينما كانت، حتى لو كانت في أعالي السماء، ولا بد من استكشاف الفضاء الفسيح والكواكب والكويكبات التي تحوم حول الأرض، فقد تُشْبعْ جشع هذه الدول والشركات الصناعية العملاقة.
فمن من الموارد الحيوية التي لا حياة بدونها واكتشفت في القمر هي جزيئات المياه، فوجود المياه بشكلٍ عام يشير إلى وجود حياة من نوعٍ ما، وفي الوقت نفسه فإن جزيء الماء الذي يحتوي على الأكسجين والهيدروجين يمكن أن يستخدم كوقود للصواريخ، أي أن هذا الاكتشاف قد يجعل سطح القمر مؤهلاً لإنشاء قاعدة، أو محطة ترانزيت للتزود بالوقود للعمليات والمهمات الاستكشافية في أعماق الفضاء السحيقة، أي أن القمر سيتحول إلى نقطة انطلاق للمزيد من الاستكشافات الفضائية البعيدة. كما أكدت دراسة عن وجود جزيئات المياه أيضاً في الكويكبات (asteroids) القريبة من القمر، حسب المنشور في مجلة «علم الكواكب» (The Planetary Science) في 24 فبراير 2024 تحت عنوان: «اكتشاف جزيء الماء على الكوكيبات اللامائية». وقد قام البحث بدراسة أربعة أنواع من الكويكبات من نوع «إس»، حيث تم تأكيد وجود جزيئات الماء في اثنتين من الكويكبات، فهي إذن ليست صخوراً ميتة لا روح فيها ولا حياة، وإنما توجد فيها أساس الحياة ممثلة في الماء. كذلك فإن هذه الكويكبات غنية بالعناصر النادرة التي لا توجد بوفرة في الأرض ولا تستطيع تلبية حاجة البشرية عند الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة النظيفة التي تحتاج إلى مثل هذه العناصر، ولذلك يمكن للقمر وهذه الكوكيبات أن تكون مصدراً لهذه المعادن للإنسان. وفي الوقت نفسه هناك مصدر آخر للطاقة موجود في القمر وهو عنصر الهيليوم.
وأما العامل الثالث فهو أمني وعسكري، وبخاصة بالنسبة إلى الدول الصناعية الكبرى المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، والصين. فالولايات المتحدة أسست في عام 2019 في عهد ترامب فرعاً متخصصاً وفريداً من نوعه على المستوى الدولي ضمن الجيش الأمريكي تحت مسمى «قوة الفضاء» (Space Force)، وقد تَكُون لهذه القوة بالتعاون مع ناسا وشركات استثمارية خاصة أخرى مهمات عسكرية كاحتلال مواقع في الفضاء، أو على سطح القمر للقيام بمهمات أمنية فضائية، كتدمير أقمار صناعية محددة، أو تعطيلها، أو التأثير على عملها بالهجمات السيبرانية. كذلك من المهمات وضع أسلحة نووية في مدارات الأرض المنخفضة، أو إجراء تجارب نووية وغير نووية في الفضاء أو على سطح القمر.
وفي هذا السياق، أفادت تقارير أمريكية منشورة في وسائل الإعلام الأمريكية في 16 فبراير 2024 وعلى لسان «جون كيربي» المتحدث باسم «مجلس الأمن القومي»، بأن روسيا تنوي وضع قنابل ذرية في المدارات الفضائية حول الأرض، أو أسلحة مضادة للأقمار الصناعية، ويُطلق عليها (super weapons) باستخدام صواريخ أسرع من الصوت.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه حول هذه البرامج الفضائية وعلى سطح القمر هو: من يمتلك هذا الفضاء الفسيح؟ ومن يمتلك القمر حتى تقوم بعض الدول باحتلاله واستغلاله اقتصادياً، وأمنياً، وعسكرياً؟
فملكية الفضاء كملكية مناطق أعالي البحار وفي التربة في أعماق المحيطات، فمن الناحية النظرية كلها موارد عامة مشتركة لجميع البشر، والمنافع التي تُستخلص وتستخرج منها يجب أن تعمَّ كل الدول وكل شعوب العالم، فلا يجوز لأية دولة أن تعبث فيها فساداً، وتستبيح حرماتها، وتستأثر بخيراتها وثرواتها. ولكن الواقع يختلف عن النظرية، فقد غزت الدول المتقدمة الفضاء والكواكب والكويكبات، وبدأت في استكشاف أسرارها، والشروع في استغلال مواردها، ولن تستطيع دول العالم قاطبة الوقوف في وجهها، أو مطالبتها بالاشتراك معها في هذه الخيرات الفضائية. وجدير بالذكر فإن هناك اتفاقية دولية بشأن قانون الفضاء تحت مسمى: «معاهدة الفضاء الخارجي» لعام 1967(Outer space treaty) وتُقدم المبادئ المنظمة لأنشطة الدول في ميدان استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي، بما في ذلك القمر والأجرام السماوية الأخرى. ومن بين مبادئ المعاهدة الحظر على الدول والأطراف في المعاهدة من وضع أسلحة نووية، أو أي أسلحة أخرى من أسلحة الدمار الشامل في مدار الأرض، أو تثبيتها على سطح القمر، أو أي جرم سماوي، أو محطة فضاء. كما تنص المعاهدة أيضاً على أن القيام باستكشاف الفضاء الخارجي يجب أن يكون لمنفعة جميع البلدان لأن الفضاء تراث عالمي مشترك.
وهذه المعاهدة الأممية كباقي المعاهدات التي تقع تحت مظلمة الأمم المتحدة هي غير ملزمة للدول، ولا توجد أية آلية لمراقبة تنفيذ بنودها ومعاقبة المخالفين لها، ولذلك فالدول العظمى المتنفذة والقوية هي التي تحكم وتسيطر على هذه المعاهدات، وتوجه بوصلتها نحو مصالحها القومية.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك