زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
كلنا نفكر ومفكرون
نحن قوم نعشق الألقاب الطنانة، وعند مخاطبة رجل لا نعرف اسمه ولكنه حسن الهندام نناديه «يا أستاذ»، أما إذا كان شكله ولبسه «بلديا» فنناديه: يا أخ، ولاحظت في القناة الفضائية السودانية أنهم كلما ظهر على الشاشة شخص «بسيط»، أشاروا إليه بـ«مواطن»، وكأنما الأستاذ والمحامي والمهندس ليسوا مواطنين، وقد سبق أن استضافتني العديد من القنوات التلفزيونية، في برامج حوارية مع آخرين، وفي كل مرة، كان اسمي يظهر على الشاشة، مصحوبا بلقب «إعلامي»، وهو لقب هلامي، يحمله أيضا صحفيون نذروا أقلامهم للتضليل والتجهيل، مع سبق الإصرار والترصد، ولكن ما فقع مرارتي في كل مرة شاركت فيها في حوار تلفزيوني، هو أن اسما واحدا أو أكثر من الضيوف كان يظهر مقرونا بلقب «مفكر».
عندما يتم اعتبار من تجالسه وتحاوره مفكرا، ويضيفون عليك لقبا أي كلام، فمعناه بالبلدي أنهم يعتبرونك «أبله / درويش / مخك ضارب»، وما قادني إلى تقليب المواجع أن مجلة خليجية تستكتبني عدة مرات في السنة، تطرح كل شهر قضية حيوية، مستأنسة بآراء من تسميهم أهل الفكر والاختصاص، ولم يخطر ببال محرريها أن يطلبوا مني الإدلاء بدلوي في أي من تلك القضايا، رغم أنهم يعرفون أنني بحر علوم، ولكن ينقصني لقب «مفكر» الذي توزعه أجهزة الإعلام مجانا.
وأود هنا أن أؤكد أنني «مفكر» من الدرجة الأولى، بدليل أنني قل أن اهنأ بنوم مريح من فرط التفكير في مستقبلي، بوصفي كاتبا واعدا صاعدا، وفيفي عبده أيضًا مفكرة لأنها تخطط لحفلاتها وحركاتها وملابسها، باختصار، كلنا مفكرون ومفكرات باستثناء مقدمات برامج البث المباشر التلفزيونية، اللواتي يتكلمن ثم يفكرن في ما قلنه، والدليل القاطع على أنني مفكر من ذوي الوزن الثقيل هو الدراسة التي أعددتها عن أضرار الشيشة عند استخدامها في غرفة ليست بها دريشة (التسمية الخليجية للنافذة)، و«تأثير طالبان على السيولة النقدية في اليونان».
وقد ظل يؤرقني التساؤل عن سبب إحجام وسائل الإعلام العربية، عن تقديمي للجمهور كمفكر، إلى أن قرأت دراسة نقدية عن المعاملة الفظة التي تعرض لها الشعراء السود عبر القرون على أيدي العرب، ومنهم الحيقطان وسنيح وعكيم (لاحظ أن أسماءهم التي تسد النفس والتي اختارها لهم العرب تستفز أعتى دعاة حقوق الإنسان وتجعل منه عنصريا متشددا)، فأدركت أنني أيضًا ضحية التمييز الإعلامي، (خارج السودان مفهومة، ولكن لماذا تبخل علي حتى القنوات الفضائية السودانية بلقب «مفكر»).
وتناولت تلك المجلة في عددها لها قبل أشهر مسألة الزواج والطلاق في العالم العربي، وشطح ونطح «مفكرون» حول الموضوع، وكان أحدهم خالي طرف، أي أعزب، بينما كانت خبرة مفكر آخر في مجال الزوجية أقل من عشر سنوات، ولم تستأنس المجلة برأيي رغم أنني زوج مزمن ومدمن، أي صاحب خبرة زوجية طويلة، ولست بحاجة إلى نصيحة من عالم سوسيولوجي أو سايكولوجي (استخدام المصطلح الإفرنجي ضروري للهيبة والوقار اللازمين لاكتساب لقب مفكر)، كي أفتي في مسائل الزواج والطلاق، أو الدفاع عن حقوق الرجال الذين أصبحوا مجرد شوارب لا تهش ولا تنش ولا تعرف الفرق بين الفياغرا والمش (بكسر الميم).
والتحقيق/ التقرير آنف الذكر يصور الرجل العربي كوحش كاسر، مع أنه في حقيقة الأمر غلبان مثل سرحان عبدالبصير، والملاحظ أن جميع الكتاب يعمدون إلى تداول عبارات تمجد المرأة على حساب الرجل ومن ذلك ترديد: وراء كل رجل عظيم امرأة، هذا كلام فارغ، فقد ينجح شخص يتيم الأم ومقطوع من شجرة وأعزب بحيث يدخل التاريخ والجغرافيا.
(كان الزعيم الراحل للحزب الشيوعي السوداني الأستاذ عبدالخالق محجوب خطيبا بارعا مفوها، لا يتلجلج ولا يتئتئ وهو على منبر، وذات خطبة جماهيرية قال كلاما أعجب أحد الحضور، فوقف يصفق بحرارة وصمت عبدالخالق، فصاح فيه صاحبنا: واصل يا أستاذ.. كلامك جغرافيا، وبهذا يكون السودان قد أثرى اللغة العربية بجعل كلمة جغرافيا تعني «رصين/ منطقي/ بديع»).
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك