زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن الأمريكاني الكذوب الصادق
الصدق في القول حتى لو كان الأمر يتعلق بالاعتراف بالكذب يستحق الإعجاب والتقدير، وكما في المقولة المنسوبة للإمام علي كرم الله وجهه فإن الاعتراف بالحق فضيلة، ومن ثم فلا حرج علي عندما أبدي إعجابي بشخص «مستهبل» مارس الكذب ثم اعترف بأنه كاذب ونطق بالحق الذي هو الصدق، وهذا الشخص هو باتريك ميرفي، الذي كان عضوا بالمحكمة العليا في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، لأنه أمين مع نفسه، فقد مثل ميرفي أمام مجلس تأديب، لأنه تغيب عن العمل أكثر من 400 يوم خلال أربع سنوات بسبب المرض، وبعد بدء جلسة التأديب بقليل، انسحب ميرفي لأنه كان يعاني من صداع شديد، وبعد استئناف الجلسة شرح ميرفي كيف أن صحته معتلة دائماً، ولكن رئيس مجلس التأديب واجهه بأنه في إجازة مرضية أخرى التحق بكلية الطب، بعد أن تأكدت الكلية من أن صحته زي البمب، هنا لم يجد القاضي ميرفي مناصا من الاعتراف بأن المرض الذي يأتيه فقط أثناء العمل وأنه يكون في أوفر صحة عندما يكون بعيداً عن موقع العمل.
كلنا ذلك الـ«ميرفي»... على الأقل أنا شخصيا ذلك الميرفي، فعندما أكون في المكتب أكون أحيانا مكتئبا وعكر المزاج، وكثيرا ما أسال نفسي: ما ضر الشركة التي أعمل بها لو أعطتني راتبي كاملا وأنا جالس في بيتي؟ يعني - اسم الله عليه - جعفر لو غاب سيتوقف دولاب العمل وتنخفض الانتاجية؟ ضع اسمك مكان «جعفر» وسيظل السؤال وجيها.
يتندر البعض بأن رئيساً عربياً قرأ في الصحف أن نحو نصف مليون شخص غادروا البلاد لقضاء العطلة الصيفية في الخارج، وأن أكثر من نصفهم من موظفي الدولة، فاقترح، أنه طالما أن دولاب العمل يدور على أكمل وجه في غياب كل أولئك الموظفين، فإنه يجب خفض النفقات الحكومية بتفنيش جميع الموظفين الموجودين خارج البلاد، أي خمسين في المائة من موظفي الدولة وعدم تعيين آخرين مكانهم!! كلام قد يبدو ساذجاً للمتحذلقين المتثاقفين من الفصيلة التي قال عنها الشاعر الصعلوك أحمد فؤاد نجم: (يعيش المثقف على مقهى ريش... محفلط مزفلط... كثير الكلام... عديم الممارسة عدو الزحام... بكام كلمة فاضية وكام اصطلاح... يفبرك حلول المشكلات قوام... يعيش التنابلة في حي الزمالك... وحي الزمالك مسالك مسالك... تحاول تفكّر تهؤب هناك... تودر حياتك بلاش المهالك). ولكن ذلك الزعيم نطق بالحكمة.
دعونا نعترف يا جماعة بأن معظمنا عبء على الأجهزة الحكومية التي نعمل بها، وأنه خير لنا ولها أن يتم تسريحنا منها بمعروف (يعني يعطونا اللي فيها النصيب) وسيستمر العمر على نفس الحال البائس، وعلى الرغم من أنني معارض محترف لكل الحكومات السودانية المتعاقبة، ولا أعتقد أنه من الممكن أن تأتي حكومة في الخرطوم وأنا على وش الدنيا تستأهل تأييدي طالما أن الله ابتلى الساحة السياسية السودانية بكائنات طويلة الأعمار، لا تشبع ولا تريد للشعب أن يشبع، إلا أنني لا أستطيع أن أنكر فضل الحكومة السودانية عليّ، فقد تسلمتني من أهلي وعمري نحو عشر سنوات وظللت على كفالة الحكومة حتى تخرجت في الجامعة... يعني الحكومة قدمت لي التعليم والأكل والمسكن والملبس... وفي الجامعة كانوا يعطوننا جنيهاً ونصف الجنيه شهرياً، وأدت هذه المنحة المترفة إلى انتقالي مجدداً إلى الطبقة البرجوازية التي كنت أنتمي إليها عندما كنت طالباً في المرحلة الابتدائية بحكم امتلاكي حمارا كان يقلني إلى المدرسة، بينما كان بقية التلاميذ يأتونها راجلين سيراً على أقدامهم، وطوال فترة الدراسة كانت الحكومة تشتري لنا النظارات الطبية، وكم من طالب سوداني من أبناء جيلي لبس النظارة الطبية وبصره حديد من باب «البلاش كثر منه» بأن استهبل طبيب العيون: في أي اتجاه تفتح هذه الدائرة؟... أي دائرة؟... الدائرة التي على اللوحة!... أي لوحة؟ فيقرر الطبيب أن صاحبنا بحاجة إلى نظارة ذات عدسات مترادفه ويلبس صاحبنا النظارة ويحس أنه ارتقى في السلم الطبقي، وصار مثقفا لأن النظارات كانت في نظر الناس ميسم من يكثرون من القراءة، وكان الأميون يعانون من ضعف النظر، ويعتبرون ذلك مرضا لا شفاء منه أو كما قال قريب لي نصحته باستخدام نظارة لأنه كان بحاجة إليها «مفيش حاجة تستاهل الشوف»، ومع هذا أنكرت جمائل تلك الحكومة ومارست التسيب خلال عملي لديها ثم «طفشت» أي غادرت.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك