زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
لماذا أكره العودة إلى المدارس (2)
قلت بالأمس وأقولها مجددا إنني كنت أكره المدرسة بصفة عامة وإنني عشت أتعس سنوات مسيرتي المدرسية في المرحلة الابتدائية، وذلك بسبب الضرب المتكرر الذي كنت أتعرض له مصحوبا بإساءات جارحة لوجداني كطفل (وإن كان يخفف وقع بعض تلك الإساءات أنني كناطق باللغة النوبية لم أكن أفهم مؤدّاها عندما تأتي بالعربية، ومن بينها ما كان يقوله لنا مدرس: يا أحط من المحطة وأرذل من الرذيل وأحْيَر من سمكة على شاطئ دجلة!!)
ومن ثم فالعودة إلى المدارس في نظري هي عودة إلى عام كامل من التعاسة، بسبب أن مدارسنا تفتقر إلى البعد التربوي، فالمهم هو الالتزام باللوائح «التربوية»، وعلى رأسها الطابور الصباحي اليومي الذي لا علاقة له بالتربية أو البطيخ، ولابد من إكمال المنهج المقرر، في مدى زمني معين، ومن ثم فإن الطالب يتحول إلى قطعة من الكوسة يتم تجويفها وحشوها بمواد مختلفة غير متجانسة (تماما كأكلة المحشي التي هي ضرب من الاستهبال يتيح لمن يطبخها إخفاء فشله في جوفها، وتستفزني كثيرا عبارة أن فلانة ماهرة في صنع المحشي، وعبارة «تغدينا بمحشي يجنن»).
وأغرب ما سمعته خلال الأعوام الأخيرة هو أن طلاب بعض الجامعات أيضاً يتعرضون للإذلال والإهانة من قبل بعض المحاضرين، الذين يوزعون ألقابا من نوع «غبي». «حمار»، «قليل أدب» على الطلاب، مع أن الطالب لا يجد مقعدا في الجامعة إلا بعد أن يمر بثقب غربال ناعم، أي تصفيات كثيرة مما يعني أن من يصل إلى الجامعة بالضرورة شاب متميز (هذا لا يسري على من يدخلون الجامعة من النوافذ لأنهم «مسنودون»، وهذه من عجائب النظام التعليمي العربي فلم أسمع خارج الوطن العربي عن طلاب يدخلون الجامعة وهم غير مستوفين لشروط القبول، إلا في جامعات الإنترنت التي تمنح الشهادات بنظام هوم ديليفري/ توصيل للمنازل لمن يدفع المعلوم!!).
ويشكو طلاب من أن الاستاذ الفلاني لا يسمح لأي منهم بمقابلته.. أو أن زميله الآخر متخصص في ترسيب الطلاب، أي معروف بأن معظم من يجلسون لامتحانات في المادة التي يدرسها، يرسبون فيها بينما قد يحصلون على تقديرات عالية في المواد الأخرى، ولكن ما يؤلمني أكثر هو أن طلاباً جامعيين عديدين يشكون من أنهم يتعرضون للإهانات والإساءات اللفظية من قبل الأساتذة.
عندما كنا في جامعة الخرطوم لم نكن فقط نقابل أساتذتنا في مكاتبهم متى ما رغبنا في ذلك، بل كان كثيرون منا يملكون نسخاً من مفاتيح تلك المكاتب ليتسنى لهم استخدامها ليلاً للاستذكار ومراجعة الدروس، وعندما كنت في السنة النهائية من المرحلة الثانوية تم فصلي وطردي من المدرسة بسبب نشاطي «المريب» ضد حكومة مريبة، وجلست لامتحان الشهادة الثانوية ومعي بعض زملائي المطاريد خارجياً (من المنازل)، في منطقة تبعد عن مدرستي الأصلية بنحو ثلاثين كيلومتراً، وطوال فترة الامتحانات كان مدرسون من مدرستنا الأصلية يمرون علينا بالتناوب ليراجعوا معنا الدروس ويرفعوا روحنا المعنوية، وكان من بينهم مدرس لغة إنجليزية اسكتلندي اسمه جون ميلون، وكان يتباهى عادة ببخله، ومع هذا فقد جاءنا قبل أيام من امتحان الأدب الإنجليزي بسيارة أجرة وأمضى معنا زهاء خمس ساعات يشرح الجوانب المستعصية في الكتب الثلاثة المقررة علينا.. وحفظت لأساتذتي ذلك الجميل وقمت برده بعد أن صرت بدوري مدرساً للإنجليزية، ففي الأيام التي تسبق امتحانات الشهادة الثانوية كنت أجمع الطلاب في قاعة ضخمة وأراجع (أذاكر) معهم الدروس بأسلوب مكثف ثم أطلب منهم أن يعاهدوني على «النوم» فور العودة إلى بيوتهم. كنت بذلك أوحي لهم بأننا قمنا بالمراجعة اللازمة وأن محاولة مواصلة استذكار ما راجعناه سوياً في البيت، سيسبب لهم التوتر والقلق، ومن ثم فإن النوم هو الضمان الأفضل لدخول قاعة الامتحان بأعصاب هادئة، ومع هذا كنا خلال مراقبة طلابنا في امتحان الشهادة الثانوية لا نرحم من يبدر عنه تصرف مريب (الطلب المتكرر للذهاب إلى الحمام مثلاً)
والشاهد هنا هو ليس أن أبا الجعافر كان مدرساً نموذجياً، فقد كان كل زملائي كذلك، ولكن العلاقة بين المدرس والطالب يجب أن تقوم على «الحب» قبل أن تقوم على الاحترام، والاحترام حتى للوالدين عندما يكون بسبب الخوف أو تفادياً للعقاب يكون مزيفا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك