زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عندما يمكر الصغار (2)
تناولت بالأمس موضوع فيلم «هوم ألون» الأمريكي الذي قام ببطولته مكولكي كولكن وهو في نحو العاشرة من العمر، ويتناول في جزءين حكاية طفل بقي بمفرده في البيت، بعد أن نسيه أهله في زحمة السفر لأنه كان واحدا من بين أحد عشر أخا وأختا، وهوم تعني «البيت» بينما ألون تعني «بمفرده، وكمدرس لغة إنجليزية «تائب عن المهنة» يجب أن أوضح أن هوم (home) فيها حميمية أكثر من هاوس (house) الذي يعني المبنى من حجر أو طين، تماما كالفرق بين الدار والبيت والمنزل، فالدار تنم عن الانتماء ولهذا يسمي أهل الخليج الوطن «ديرة» وهي مشتقة من دار، بل هي اسم الدلع للدار والإنسان لا يدلع ويدلل إلا «العزيز والغالي».
وعطفا على حكاية الفيلم سردت ما حدث قبل سنوات عندما بقي أصغر أولادي في الدوحة بمفرده بينما لحق بنا إخوته في لندن، وكنا أنا وزوجتي قد سبقناهم إلى هناك بأسبوع، وذلك لأنني لم أذكر في طلب تأشيرة دخوله إلى بريطانيا أنه –كقاصر– مسافر في صحبة اخوته، ورفضت سلطات المطار في الدوحة من ثم السماح له بالسفر فقضى في بيتنا بمفرده معظم ساعات الأيام الثلاثة التي مكثها في الدوحة قبل أن يلحق بنا، بعد أن أقنع قريبا لنا يعاني من الأمية التكنولوجية بأنه بحاجة الى كومبيوتر بيتنا لأداء مهام لا تتم إلا باستخدامه، على أن يعود ذلك القريب مساء لاصطحابه الى بيته لينام مع أفراد عائلته، وكان قريبنا ذلك يحسب ان كمبيوتر بيتنا به مميزات خاصة لا تتوافر في غيره.
في مطار لندن احتجزت سلطات الجوازات الولد نحو ساعتين حتى اضطررت إلى الشكوى فتم «التحقيق» معي عبر الهاتف: ما تاريخ ميلاده؟ ما عنوانك في لندن؟ ما هي أبرز ملامحه (قلت لهم: طالع حلو زي أبوه ولكنهم زجروني: بلاش هزار فالمسألة جد ونحن نكافح تهريب الأطفال والاتجار بهم)، وكادوا يحتجزونه ويعتقلونني لأنني تلجلجت في تاريخ مولده، فهو وشقيقه الأكبر مولودان في ديسمبر وبذلك اختلطت علي الأمور وقلت لهم إنه مولود في يوم كذا، وكان ذلك يوم مولد شقيقه، ثم خرج الولد من دهاليز مطار هيثرو مصحوباً بضابط جوازات ألقى نظرة واحدة على «شكلي» واقتنع بأنني فعلا والد الطفل الذكي معه. وزال ضيقي من تأخير خروج ولدي من المطار وشكرت الرجل. وأوصلته إلى مكان إقامتنا واحتضنته امه وكأنه كان مفقودا وهي تبكي، وتلعن لندن والملكة إليزابيث، وما جعلني أحس بالغيرة أن ذلك الولد كان وقتها دون الـ15 بقليل ولديه هاتف جوال ويرتدي بنطلون جينز وركب الطائرة وجاء إلى لندن بمفرده، بينما لم يتسن لي وأنا في مثل سنه سوى ركوب الحمير.
فكرت في الاتصال هاتفياً بأمي لمعاتبتها لأنها قصرت في حقي في أمور كثيرة: لم أعرف السريلاك إلا بعد أن رزقت بعيالي. أما البامبرز فـ«خليها على الله»، وحتى بعد أن سمعت به أمي فإنها ظلت تزعم أنه يسبب سرطان الجلد. طبعاً ليس وارداً أن أعاتب أمي لأنها لم تطعمني البيرغر والبيتزا والآيسكريم، ولكن أمر ولدي الذي فارقنا ثلاثة أيام قضاها في رعاية أقاربنا أثار شجوني: تركت أهلي وعمري 11 سنة لألتحق بالمدرسة المتوسطة التي كانت بعيدة عن بلدتنا.. أذكر أنني كنت أهرب بعيداً لأبكي بكاء مرا.. لم يكن ممكناً أن أبكي أمام الآخرين فأصبح أضحوكة: عايز يمه؟ لسه ما فطموك؟ ومنذ أن فارقت بيتنا وعمري 11 سنة للدراسة لم يحدث قط أن أقمت مع أهلي أكثر من ثلاثة أشهر في السنة الواحدة، وقد قضيت جميع مراحل التعليم من المتوسطة إلى الجامعة وأنا أسكن في حرم المدرسة والجامعة. وربما لهذا السبب فإن أبناء وبنات جيلي يحسون بعمق الانتماء إلى وطن قدم لنا أفضل التعليم والطعام والسكن (وكان ذلك قبل أن تجعل الحكومات المتعاقبة الوطن السخي مباءة للفقر والجهل والمرض والحروب والكروب).
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك